التفاسير

< >
عرض

تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
١٦
فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٧
أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ
١٨
أَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ ٱلْمَأْوَىٰ نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٩
وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ
٢٠
-السجدة

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم وصف الساجدين لأنهم بأي خصوصية سجدوا له { تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ } [السجدة: 16] جنوب همهم عن مضاجع الدارين وتتباعد قلوبهم عن مضاجعات الأحوال فلا يسلكون أعمالهم ولا يلاحظون أحوالهم ويفارقون مألوفهم، ويهجرون في الله معارفهم { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } بربهم { خَوْفاً } عن القطيعة والإبعاد { وَطَمَعاً } في القربات والمواصلات { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [السجدة: 16] من نعمة الوجود ينفقون ببذل المجهود في طلب المفقود ليرد إليهم بالجود ما أخفى لهم من النقود.
كما قال تعالى: { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [السجدة: 17] وفي الحقيقة أن ما أخفى لهم إنما هو جمالهم فقد أخفى عنهم لعينهم، فإن العين حق فاعلم أنه ما دام أن تكون عينكم الفانية باقية يكون جمالكم الباقي مخفياً عنكم لئلا تصيبه عينكم فلو طلع صبح سعادة التلاقي، ويذهب بظلمة الشين من البين، وتبدلت العين بالعين فذهب الجفاء وظهر الخفاء ودام اللقاء، كما أقول:

قد جَاء هواكمُ وذهبَ بالبينِ لم يبق سوى وصالكمُ في البينِ
ما جاء بغير عينكم في عيني والآن تحت عينكم لي عيني

وبقوله: { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [السجدة: 17] يشير إلى عدم علم كل نفس بما أخفى لهم وحصول جهلهم به إنما كان جزاء بما كانوا يعملون بالإعراض عن الحق؛ لإقبالهم على طلب غير الله وعبادة ما سواه { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً } [السجدة: 18] بطلب الحق { كَمَن كَانَ فَاسِقاً } بطلب ما سوى الحق { لاَّ يَسْتَوُونَ } الطالبون لله والبطالون عن الله.
{ أَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [السجدة: 19] بطلب الحق تعالى { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } بالإقبال على الله والإعراض عما سواه { فَلَهُمْ جَنَّاتُ ٱلْمَأْوَىٰ نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يعني: أن جنات هي مأوى الأبرار ومنزلهم تكون لهم نزلاً للمقربين السائرين إلى الله وأما مأواهم ومنزلهم ففي
{ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } [القمر: 55].
{ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فَسَقُواْ } [السجدة: 20] خرجوا عن سبيل الرشاد ووقعوا في بين البعد والإبعاد { فَمَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا } [السجدة: 20] لأنهم في هذه الصفة عاشوا وفيها ماتوا فعليها حشروا وذلك أن دعاة الحق كانوا في الدنيا ينصحون لهم أن يخرجوا من أسفل الطبيعة بحبل الشريعة ورعاية أدب الطريقة حملهم الشوق الروحاني على التوجه إلى الوطن الأصلي العلوي، فلما عزموا على الخروج من الدركات الشهوية أدركتهم الطبيعة النفسانية الحيوانية السفلية وأمادتهم إلى أسفل الطبيعة { وَقِيلَ لَهُمْ } [السجدة: 20] يوم القيامة { ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } [السجدة: 20] لأنكم وإن كنتم معذبين في الدنيا، ولكن ما كان لكم الشعور بالعذاب لخلل حواسكم الأخروية ولو كنتم تدون ذوق العذاب لانتهيتم من الأعمال الموجبة لعذاب النار، كما أنكم لما ذقتم ألم عذاب النار في الدنيا احترزتم عنها غاية الاحتراز.