التفاسير

< >
عرض

لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً
٢١
وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً
٢٢
مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً
٢٣
لِّيَجْزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
٢٤
وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً
٢٥
-الأحزاب

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن حسن الأسوة وسر القدوة وبقوله تعالى: { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب: 21] يشير إلى ما سبقت به العناية لهذه الأمة في متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم كما أخبر بلفظ { كَانَ } أي: كان لكم مقدر في الأزل أن يكون لكم عند الخروج من العدم إلى الوجود { فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ } أي: فقد أحسنته، وذلك بأن أول شيء تعلقت به القدرة للإيجاد كان روح رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله: "أول ما خلق الله روحي" والأسوة الحسنة عبارة عن تعلق القدرة بأرواح هذه الأمة لإخراجهم من العدم إلى الوجود عقيب إخراج روح رسول الله صلى الله عليه وسلم من العدم إلى الوجود، فمن أكرم بهذه الكرامة يكون لها أثر في عالم الأرواح قبل تعلقه بعالم الأشباح، فأما أثره في عالم الأرواح فتقدمه على الأرواح بالخروج إلى عالم الأرواح وترجيعه في الصف الأول بقرب روح رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في الصف الذي يليه، وبتقدمه في قبول الفيض الإلهي وبتقدمه عند استخراج ذرات الذريات من صلب آدم في استخراج ذريته بإحضارها في الحضرة وبتقدمه في استماع خطاب { { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } [الأعراف: 172] وبتقدمه في إجابة الرب تعالى بقوله: { { قَالُواْ بَلَىٰ } [الأعراف: 172] وبتقدمه في المعاهدة مع الله وبتأخره في الرجوع إلى صلب آدم وبتأخره في الخروج عن أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات، وفي الخروج عن الرحم ويتأخر تعلق روحه بجسمه، فإن لله الذي هو المقدم والمؤخر في هذه التقدمات والتأخرات حكم بالغة، ولها تأثيرات عجيبة يطول شرحها، وأما أثره في عالم الأشباح فاعلم أنه بحسب هذه المراتب في ظهور أثر الأسوة يظهر أثرها في عالم الأشباح عند تعلق نظر الروح بالنطفة في الرحم أولاً إلى أن تربى النطفة بنظره في الأطوار المختلفة، وتصير قالباً مستوي الروح مستعداً للقبول تعلق الروح به فمثل القالب المستوي مع الروح كمثل الشمعة مع نقش الخاتم إذا وضع عليها تقبل جميع نقوش الخاتم.
فالروح المكرم إذا تعلق بالقالب المستوي يودع فيه جميع خواصه التي استفاد من تلك التقدمات والتأخرات الأسوية، فكل ما يجري على الإنسان من بداية ولادته إلى نهاية عمره من الأفعال والأقوال والأحوال كلها من آثار خواص أودعها الله في الروح فبحسب قرب كل روح الرسول صلى الله عليه وسلم وبعده عنه له أعمال ونيات تناسب حاله في الأسوة، فأما حال أهل القرب منهم بأن يكون علمهم على وفق السنة خالصاً لوجه الله.
كما قال تعالى: { لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ ٱللَّهَ } [الأحزاب: 21] وأما من هو دونهم في القرب والإخلاص فبأن يكون لليوم الآخر أي للفوز بنعم الجنان كما قال تعالى: { وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ } [الأحزاب: 21] ثم جعل نيل هذه المقامات مشروطاً بقول: { وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً } [الأحزاب: 21] لأن في الذكر وهو كلمة "لا إله إلا الله" نفياً أو إثباتاً وهما قدمان للسائرين إلى الله وجناحان للطائرين بالله بهما يخرجان من ظلمات الوجود المجازي إلى نور الوجود الحقيقي عند رؤية الأحزاب.
وبقوله: { وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ } [الأحزاب: 22] يشير إلى أهل نور الوجود المجتمعين على إضلالهم وإهلاكهم من النفس وصفاتها والدنيا وزينتها والشيطان وأتباعه { قَالُواْ } متوكلين على الله مفوضين أمورهم إلى الله { هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } [الأحزاب: 22] فإن البلاء موكل بالأنبياء والأولياء والأمثل فالأمثل وصدق الله ورسوله { وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً } [الأحزاب: 22] بصدق وعد الله { وَتَسْلِيماً } [الأحزاب: 22] لأحكامه الأزلية.
وبقوله تعالى: { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ } [الأحزاب: 23] يشير إلى أن فهم من هو بمنزلة الرجال بأن يكون هو متصرفاً في الموجودات وألا تصرف لشيء من الموجودات رأت فيه، كما قال بعضهم: "أنا سيد لا يدخلني شيء"، وأمارة رجوليتهم أنهم { صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } ألا يعبدوا غيره من الدنيا والعقبى والدرجات العليا إلى أن يصلوا إلى الحضرة العلي الأعلى { فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ } [الأحزاب: 23] أي: بلغ مقصده وهذا حال المنتهين { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } [الأحزاب: 23] البلوغ والوصال وهو في السير وهذا حال المتوسطين { وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } [الأحزاب: 23] بالإعراض عن الطلب والإقبال على غير الله.
{ لِّيَجْزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } [الأحزاب: 24] في الطلب وبقدم الصدق ينزلون عند ربهم { وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ } [الأحزاب: 24] وهم مدعو الطلب بغير قدم صدق بل بقدم كذب ورياء { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } [الأحزاب: 24] أن يكونوا في زي أهل الحرفة ولباس التقوى وفي سيرة أهل الرياء والنفاق، كما قال بعضهم:

أمّا الخيام فإنها كخيامهم وأرى نساء الحي غير نسائها

إن الله كان من الأزل إلى الأبد غفوراً لمن يشاء رحيماً لمن يشاء.
وبقوله: { وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ } [الأحزاب: 25] يشير إلى كفار النفس والشيطان والدنيا وردهم عن القلوب المنورة بنور الإيمان ومنهم غيظهم { لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } [الأحزاب: 25] أي مراداً { وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ } [الأحزاب: 25] بريح القهر إذ هبت على النفوس فأبطلت شهواتها وعلى الشيطان فردت كيده على الدنيا فأزالت زينتها { وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيّاً } [الأحزاب: 25] في إبطال الباطل وتحقيق الحق { عَزِيزاً } [الأحزاب: 25] لا مانع له عما يشاء.