التفاسير

< >
عرض

وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ
٥١
قَالُواْ يٰوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحْمـٰنُ وَصَدَقَ ٱلْمُرْسَلُونَ
٥٢
إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ
٥٣
فَٱلْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
٥٤
إِنَّ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ ٱليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ
٥٥
هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى ٱلأَرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ
٥٦
لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ
٥٧
سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ
٥٨
وَٱمْتَازُواْ ٱلْيَوْمَ أَيُّهَا ٱلْمُجْرِمُونَ
٥٩
-يس

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

{ وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } [يس: 51] يشير إلى نفخ إسرافيل المحبَّة في صور القلب، وإذا السر والروح والخفى من أحداث أوصاف البشرية إلى نفخ إسرافيل وهم يرجعون بعضهم بالسير وبعضهم بالطير، { قَالُواْ يٰوَيْلَنَا } [يس: 52] أي: من رقادنا في الغفلة { مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } [يس: 52] غير فضل الله وكرمه، { هَذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحْمـٰنُ } [يس: 52] من كمال رحمته { وَصَدَقَ ٱلْمُرْسَلُونَ } [يس: 52] فيما بلغوا من ألطاف الحق تعالى، { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } [يس: 53] يشير إلى جذبة واحدة، { فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } [يس: 53] بالخروج من لدنهم والغيبة عنهم.
{ فَٱلْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } [يس: 54] من استحقاقها وما هي مستعدة لقبوله، { وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [يس: 54]، فمن عمل للدنيا يُجرى من الدنيا، ومن عمل للآخرة يُجرى منها، ومن عمل لله يُجرى عواطف حسانه وشواهد سلطانه.
ثم أخبر عن أهل الجنان وأرباب الجنان بقوله تعالى: { إِنَّ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ ٱليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ } [يس: 55] وفيه إشارة:
منها: إنه لما كان الغالب عليهم طلب الجنة والأخذ بمجامع قلبهم أَمْرُها: أضيفوا إليها، قيل لهم: إن أصحاب الجنة كما أنه من الغالب عليه طلب الدنيا، وهو في أسْرِها أضيف إليها، وقيل له: صاحب الدنيا.
ومنها: إنها لما كانت هممهم مقصورة عل طلب الجنة شغلهم الله بالفاكهة مع أزواجهم عن طلب الله دون المعاشقة عند المشاهدة والمعاينة، وهو قوله: { هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى ٱلأَرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ } [يس: 56] أي: يكونوا متكئين على هذه الحالة وهذه الأحوال، وإن جلت عنهم بالنسبة إلى أصحاب الجحيم، ولكنها بالإضافة إلى أحوال السادة والأكابر من الملوك والسلاطين، الذين هم أهل الله وخاصته يتقامرون.
وعلى هذا يدل قوله صلى الله عليه وسلم:
"إن أكثر أهل الجنة البله" ، عن بعض أرباب النظر أنه كان واقفاً على باب الجامع يوم الجمعة، والخلق قد فرغوا من الصلاة وهم يخرجون عن الجامع، قال: "هؤلاء حشر الجنة"، وللمجالسة أقوام آخرون، ومن كان في الدنيا عن الدنيا حُراً فلا يبعد أن يكون في الجنة عن الجنة حراً، { يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ } [البقرة: 105]، ولعل يكون هذا الخطاب لأقوام فارغين عن الالتفات إلى الكونين مراقبين للمشاهدات، الذين قال الله فيهم: { { فَإِذَا فَرَغْتَ } [الشرح: 7] بعني: عن تعلقات الكونين { فَٱنصَبْ } [الشرح: 7]؛ أي: اطلب الحق تعالى: { { وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَٱرْغَبْ } [الشرح: 8]، فيقول لهم: { إِنَّ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ ٱليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ } [يس: 55] { وَأَزْوَاجُهُمْ } [يس: 56] أي: أشكالهم، فارغبوا أنتم إليَّ واشتغلوا بي، وتنعموا بنعيم وصالي، وتلذذوا لمشاهدة جمالي، وتصدروا بطالعة جلالي.
وقيل: قرئ عند الشبلي قوله: { إِنَّ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ ٱليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ... } [يس: 55] الآية، فشهق شهقة وغاب فلما أفاق قال: فإنهم مساكين لو علموا أنهم عما شغلوا لهلكوا.
ومنها: { إِنَّ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ }، يعني: في الدنيا { فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ } بأنواع الطاعات والعبادات عن طلب الحق والشوق إلى لقائه كانوا يطلبون منه، وما كانوا يطلبون كما روي عن يحيى بن معاذ أنه قال: رأيتُ ربَّ العزة في منامي، فقال لي: يا معاذ كل الناس يطلبون مني إلا أبا يزيد، فإنه يطلبني.
وروي عن أبي يزيد أنه قال: رأيت ربي في المنام، فقال لي: يا أبا يزيد أنا بدك اللازم فالزم بدك.
فاعلم أن كل مطلوب يوجد في الآخرة أنه ثمرة بذر طلبه في الدنيا، كما قال صلى الله عليه وسلم:
"يموت الناس على ما عاش فيه ويحشر على ما مات عليه" .
ومنها: يجود كمال كرمه أنه تعالى يخاطب بهذا الأقوام من عصاة الموحدين، وهم في العرصات بعد لم يدخلوا الجنة، فيقول الحق تعالى لهم: { يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ } [الزمر: 53] إن كان أهل النار لا يتفرغون إليكم لأهوالهم، وما هم فيه من صعوبة أحوالهم، وأهل الجنة وأصحابها اليوم في شغل عنكم في لذاتهم، وما وجدوا من أفضالهم مع أهاليهم وأشكالهم، فليس لكم اليوم إلا أنا من فرط كرمي و رحمتي، فيدعون منه السلامة عن النار برحمته، ودخول الجنة بكرمه، فيعطي سؤلهم ويبذل مأمولهم، وذلك تحقيق قوله: { لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ * سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [يس: 57-58].
ومنها: إن لله عباداً استخصَّهم للتخلق بأخلاقه في سر قوله:
"كنت له سمعاً وبصراً فبي يسمع وبي يبصر" ، فلا يشغلهم شأن اشتغالهم بأبدانهم مع أهلهم عن شأن شهود مولاهم في الجنة، كما أنهم اليوم مستديمون لمعرفته بأي حال من حالاتهم، ولا يقدح اشتغالهم باستيفاء حظوظهم من معارفهم، ويقول: { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [يس: 58]، يشير إلى أن سلامه تبارك وتعالى كان قولاً منه بلا واسطة وأكَّده بقوله: { مِّن رَّبٍّ } ليعلم أنه ليس سلام على لسان سفيره، قوله: "من رحيم" فالرحمة في تلك الحالة أنه يرزقهم الرؤية في حال ما تسلم عليهم؛ ليكمل لهم النعمة.
وإشارة أخرى أن السلام من الرب الرحيم لو لم يكن صادراً عند تجليه جل جلاله لأهل الجنة لتلاشت من سطوة جلاله الجنة وما فيها، كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج على بساط قرب أو أدنى في خلوة
"لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل" ؛ بتجلي ذاته وصفاته سبحانه وتعالى على وجه لم يتخصص به أحد من العالمين قبله ولا بعده، ما أثبته إلا قوله تعالى: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" ، ما سلم من تلك السطوة إلا في حفاوة سلامه كما سلم إبراهيم عليه السلام من البرد حين قال: { يٰنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَٰماً عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ } [الأنبياء: 69]، وبقوله: { وَٱمْتَازُواْ ٱلْيَوْمَ أَيُّهَا ٱلْمُجْرِمُونَ } [يس: 59] يشير إلى امتياز المؤمن بيمينه، وبإيتاء كتاب الكافر بشماله، وبثقل الميزان بالنور وبخفّه بالظلمة، وثبات القدم على الصراط وزلة القدم.... وغير ذلك.