التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي
ثم أخبر عن غاية جهالتهم ونهاية ضلالتهم بقوله تعالى: { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ٱلْجِنَّةِ نَسَباً } [الصافات: 158]، يشير إلى أجنية الإنسان وقصور نظر عقله عن كمال أحدية الله وجلال صمديته؛ إذ وكل الإنسان إلى نفسه في معرفة ذات الله وصفاته، فيقيس ذاته على ذاته، وصفاته على صفاته، فيثيب له نسباً كما له نسب، ويثبت له زوجةً وولداً كما له زوجة وولد، ويثبت له جوارح كما له جوارح، ويثبت له مكاناً كما له مكان، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وهو يقول تبارك وتعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } [الشورى: 11].
وبقوله: { وَلَقَدْ عَلِمَتِ ٱلجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } [الصافات: 158] يشير إلى أن الجنة قد علمت أن لا نسبة لها مع الله تعالى، وعلمت أن قائلي هذه المقالة لمحضرون في النار، ثم نزه نفسه عما يصفه الواصفون لعقولهم وأرائهم، فقال تعالى: { سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } [الصافات: 159]؛ يعني: أهل الأهواء أو البدع، { إِلاَّ عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ } [الصافات: 160]؛ يعني: إلا من أخلصه الله عن ضلالة الإنسانية بهداية الربانية فإنهم يعرفون الله بنور الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: "عرفت ربي بربي، ولولا فضل ربي ما عرفت ربي" .
وبقوله: { فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ } [الصافات: 161-162]، يشير إلى أن أهل الضلالة وما هم يعبدون في ضلالتهم ليسوا على شيء في الإضلال من أحد، إلا من قدر الله أن يكون من أهل النار فيحنئذٍ يضلون بتقدير الله، وذلك قوله: { إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ ٱلْجَحِيمِ } [الصافات: 163].
وبقوله: { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [الصافات: 164] يشير إلى أن للملك مقاماً معلوماً لا يتعدى حده، وهو المقام الملك الروحاني أو الكروبي، والكروبي لا يقدم على مقام الروحاني؛ فلا عبور لهم من مقامهم إلى مقام فوق مقامهم، ولا نزول لهم إلى مقام دون مقامهم، ولهم بهذا فضيلة على إنسان يبقى في أسفل السافلين والدرك الأسفل من النار، وللذين عبروا منهم عن أسفل السافلين بالإيمان والعمل الصالح وصعدوا إلى عليين، بل ساروا إلى مقام قاب قوسين أو أدنى، بل طاروا إلى منزل أو أدنى فضيلة عليهم؛ ولذها أمروا بسجدة أهل الفضل منهم بقوله: { { فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ص: 72]، فللإنسان أن ينزل من مقام الإنسانية إلى درك الحيوانية، كقوله تعالى: { { أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [الأعراف: 179] وله أن يترقى بحيث يعبر عن مقام الملكي، ويقال له: تخلقوا بأخلاق الله، ولو كان من مفاخر الملك أن يقول: وإنا لنحن الصادقين؛ يعين: في الصلاة والعبودية، فإن للإنسان معه شركة في هذا، وللإنسان صفة يحبها الله وليس للملك فيه شركة، وذلك قوله تعالى: { { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ } [الصف: 4]، وأن يقولوا: { وَإِنَّا لَنَحْنُ ٱلْمُسَبِّحُونَ } [الصافات: 166] أيضاً للإنسان معهم شركة، ومن مفاخر الإنسان أن يقولوا: وإنا نحن لمحبون وإنا لنحن المحبوبون وهم مخصوصون به في الترقي من مقام المحبية إلى مقام المحبوبية، وبقوله: { وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ * فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [الصافات: 167-170] يشير إلى تنزل الإنسان إلى الدرك الأسفل.