التفاسير

< >
عرض

وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ ٱلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ
٣٠
إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِٱلْعَشِيِّ ٱلصَّافِنَاتُ ٱلْجِيَادُ
٣١
فَقَالَ إِنِّيۤ أَحْبَبْتُ حُبَّ ٱلْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ
٣٢
رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِٱلسُّوقِ وَٱلأَعْنَاقِ
٣٣
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ
٣٤
قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ
٣٥
فَسَخَّرْنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ
٣٦
وَٱلشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ
٣٧
وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي ٱلأَصْفَادِ
٣٨
هَـٰذَا عَطَآؤُنَا فَٱمْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ
٣٩
وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَآبٍ
٤٠

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

{ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ } [ص: 30]؛ أي: لداود الروح { سُلَيْمَانَ } [ص: 30] القلب، { نِعْمَ ٱلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ص: 30]، رجع إلى الحضرة بإخلاص العبودية بلا علة الدنيوية والأخروية.
{ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِٱلْعَشِيِّ ٱلصَّافِنَاتُ ٱلْجِيَادُ } [ص: 31]؛ وهي مراكب صفات البشرية، وبقوله: { فَقَالَ إِنِّيۤ أَحْبَبْتُ حُبَّ ٱلْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ } [ص: 32]، يشير إلى أن حب غير الله شاغل عن الله وموجب للحجاب.
وبقوله: { رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِٱلسُّوقِ وَٱلأَعْنَاقِ } [ص: 33]، يشير إلى أن كل محبوب سوى الله إذا حجبك عن الله لحظة يلزمك أن تعالجه بسيف نفي لا إله إلا الله، وبقوله: { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ } [ص: 34]، يشير إلى إلقاء وسوسة شيء من الشهوات الجسدانية على كرسي صدر سليمان القلب، فافتتن به إلى أن تاب منه، ورجع إلى الحضرة.
ثم أخبر عن الإجابة بعد الإنابة بقوله تعالى: { قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ } [ص: 35]، يشير إلي معانٍ مختلفة:
منها: إنه أراد طلب المُلك الذي هو رفعة الدرجة، بني الأمر في ذلك على التواضع الموجب للرفقة؛ وهو قوله: { رَبِّ ٱغْفِرْ لِي } [ص: 35].
ومنها: إنه قدم طلب المغفرة؛ لأنه لو كان طلب المُلك ذلة عن حق الأنبياء - عليهم السلام - تكون مسبوقة بالمغفرة لا يطالب بها.
ومنها: إن المُلك مهما يكن في يد مغفور له منظور بنظر العناية ما يصدر منه تصرف في الملك إلا مقروناً بالعدل والنصفة، وهو محفوظ من آفات الملك وتبعاته.
ومنها: قوله: { وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ } [ص: 35]؛ أي: يكون ذلك موهوباً له، بحيث لا ينزعه منه ويؤتيه من يشاء، كما هي السنة الإلهية جارية فيه.
ومنها: قوله: { لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ } [ص: 35]؛ أي: لا يطلبه أحد غيري؛ لئلا يقع في فتنة الملك على مقتضى قوله تعالى:
{ { إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [العلق: 6-7]، فإن المُلك جالب للفتنة، كما كان جالباً إلى سليمان عليه السلام بقوله: { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ } [ص: 34]؛ ولئلا يكون هو سبب افتتانهم.
ومنها: قوله: { مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ } [ص: 35]؛ أي مُلكاً لا يطلع على حقيقته وكماليته أحد حتى يطلبه منك؛ يعني: يكون في جملة
"ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" ليطلبه.
ومنها: قوله: { لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ } [ص: 35]؛ أي لا يكون هذا الملك ملتمس أحد منك غير للتمتع والانتفاع به، وهو بمعزل عن قصدي ونيِّتي عن طلب هذا، فإن لي في هذا المُلك نية لنفسي، ونية لقلبي، ونية لروحي، ونية للرعايا، ونية للملك.
وأما نيته لنفسه: فتزكيتها عن صفاتها الذميمة وأخلاقها اللئيمة، وذلك في منعها عن استيفاء شهواتها الحيوانية، وترك مستلذاتها النفسانية بالاختيار دون الاضطرار، وإنما يتيسر ذلك بعد القدرة الكاملة عليه بالمالكية والملكية بلا مانع ولا منازع، وكمالية في المملكة بحيث يعوذ فيها مما تحرك داعية من دواعي البشرية المركوزة في جبل الإنسانية؛ ليكون كل واحد من المشتهيات والمستلذَّات النفسانية محرك لراعية تناسبها عند تملكها، والقدرة عليها عند توقان النفس إليها، وغلبات هواها، فيحرم على النفس مراضعها، ويحرمها عن مشاربها، ونهاها عن هداها خالصاً لله وطالباً لمرضاته، فتموت النفس عن صفاتها كما يمةت البدن عن إعواز ما هو غذاء يعيش به، فلما ماتت النفس عن صفاتها الذميمة يحييها الله تعالى بالصفات الحميدة، كما قال تعالى:
{ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } [النحل: 97]، وقال: { { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } [الشمس: 9]، فلا يبقى لها نظر إلى الدنيا وسائر نعيمها، كما كان حال سليمان لم يكن له نظر إلى الدنيا ونعيمها، إنما كان مع تلك الوسعة في المملكة يأكل كسيرة من كسب يده مع جليس مسكين، ويقول: جالس مسكيناً.
وأما نيته لقلبه: فتصفيته عن محبة الدنيا وزينتها وشهواتها، وتوجهه إلى الآخرة بالإعراض عنها عن القدرة عليها والتمكن فيها، ثم صرفها في سبيل الله وقلع أصلها من أرض القلب؛ ليبقى القلب صافياً نقياً من الدنس قابلاً للفيض الإلهي، فإنه خلق مرآة لجميع الصفات الإلهية.
وأما نيته لروحه: فلتحليته بالأخلاق الحميدة الربَّنية، ولا سبيل إليها إلا بعلو الهمة وخلوص النية، فإن المرء يطير بهمته كالطائر
{ { يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [الأنعام: 38]، وتزينه الهمة بحسب نيل المقاصد الدنيوية الدنية، وصرفها عن نيل المراتب الدنية الأخروية الباقية، وإن لترك المقاصد الدنيوية وإن كان أثراً لتربية الهمة، ولكن لا يبلغ حد أثر صرفه ما يملك من المقاصد الدنيوية لنيل الدرجات العلية، فلما كان من أخلاق الله تعالى أنه يحب معالي الأمور ويبغض سفاسفها، التمس سليمان عليه السلام أقصى مراتب الدنيا ونهاية مقاصدها؛ لئلا يلتفت إليها ويستعملها في تربية الهمة؛ لتتجلى روحه بحب معالي الأمور ويبغض سفاسفها متخلقاً بأخلاق الله تعالى.
وأما نيته للرعايا: بأن يحسن إليهم ويؤلف قلوبهم ببذل المال والجاه، فإن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها، فإنهم إذا أحبوا نبي الله لزمهم حب الله، فيكون حب الله وحب نبيه في قلوبهم محض الإيمان، ومن لم يكن منهم أن يؤمن بالإحسان فيدخلهم في الإيمان بالقهر والغلبة بأن يأتيهم
{ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } [التوبة: 40]، كما أدخل بلقيس وقومها في الإيمان.
وأما نيته للملك: بأن يجعل الممالك الدنيوية الفانية أخروية باقية، بأن يتوسل بها إلى الحضرة بصرفها في إظهار الدين، ولإقامة الحق، وإعلاء كلمة الإسلام، فإن قيل قوله: { لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ } [ص: 35]، هل يتناوله النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ قلنا:
إما بالصورة: فيتناول، ولكن لعلو همته وكمال قدره لا بعدم استحقاقه؛ لأنه عُرض عليه صلى الله عليه وسلم مُلك أعظم من ملكه فلم يقبله، وقال:
"الفقر فخري" .
وإما بالمعنى: فلا يتناول النبي صلى الله عليه وسلم: لأنه قال: "فضلت على الأنبياء بست" ؛ يعني: على جميع الأنبياء، ولا خفاء بأن سليمان عليه السلام ما بلغ درجة واحدة من أولى العزم من الرسل اختصاصه بصورة الملك منهم، وهم معه مفضلون بست فضائل من النبي صلى الله عليه وسلم، فمن الملك الحقيقي الذي كان كان ملك سليمان صورته بلا ريب يكون داخلاً في الفضائل التي اختصه الله بها، وأخبر عنها بقوله: { { وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } [النساء: 113]؛ بل أعطاه الله تعالى ما كان مطلوب سليمان عليه السلام من صورة الملك ومعناه، أو فسر ما أعطى سليمان وفتنه به من غير رحمة مباشرة صورة الملك، والافتتان فلم يقبله به عزة ودلالاً.
وبقوله: { فَسَخَّرْنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ } [ص: 36]، يشير إلى أن لسليمان لما فعل بالصافنات الجياد، وما فعل في سبيل الله عوضه الله تعالى مركباً مثل: الريح كان
{ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } [سبأ: 12].
وبقوله: { وَٱلشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي ٱلأَصْفَادِ * هَـٰذَا عَطَآؤُنَا } [ص: 37-39]، يشير إلى أن الإنسان إذا كمل في إنسانيته يصير قابلاً للفيض الإلهي بلا واسطة، فيعطيه الله من آثار الفيض تسخير ما في السماوات من الملائكة، كما سخر لآدم بقوله:
{ { ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ } [البقرة: 34] وما في الأرض، كما سخر لسليمان الجن والإنس والشياطين والوحوش والطيور؛ وذلك لأن كل ما في السماوات وفي الأرض أجزاء وجود الإنسان الكامل، فإذا أنعم الله عليه بفيض سخر له أجزاء وجوده في المعنى، أما في الصورة فيظهر على بعض الأنبياء تسخير بعضها إعجازاً له، كما أظهر على نبينا صلى الله عليه وسلم تسخير القمر عند انشقاقه بإشارة إصبعه؛ ولهذا قال: { هَـٰذَا عَطَآؤُنَا } [ص: 39] ، وبقوله: { فَٱمْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ص: 39]، يشير إلى أن الأنبياء بتأييد الفيض الإلهي ولاية إفاضته الفيض على من هو أهله عند استفاضته، ولهم إمساك الفيض عند عدم الاستفاضة من غير أهله، ولا حرج عليهم في الحالتين.
{ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ } [ص: 40] في الإفاضة والإمساك، { وَحُسْنَ مَآبٍ } [ص: 40]؛ لأنه كان متقرباً إلينا بالعطاء والنعم.