التفاسير

< >
عرض

ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ٱلْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٢٩
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ
٣٠
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ
٣١
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى ٱللَّهِ وَكَذَّبَ بِٱلصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ
٣٢
وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ
٣٣
لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ
٣٤
-الزمر

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً } [الزمر: 29] من تلك الأمثال { رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ } [الزمر: 29]؛ أي: الذي يتجاذبه شغل الدنيا وشغل العيال، وغير ذلك من الأشغال المختلفة، والخواطر المتشتتة، { وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ } [الزمر: 29] مؤمناً خالصاً ليس للخلق فيه نصيب، ولا للدنيا معه نسيب، وهو عن الآخرة غريب، وإلى الله قريب منيب، { هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } [الزمر: 29] البطَّالون والطالبون، والمنقطعون والواصلون، { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } [الزمر: 29] الثناء له وهو مستحق لصفات الجلال { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [الزمر: 29] كمال جماله، ولا يطَّلعون على أحسن استعدادهم لمرآتية صفات جماله وجلاله، وإلا لعطلوا الأمور الدنيوية بأسرها، وخربت الدنيا التي هي مزرعة الآخرة، وهلك الباطل والطالب.
وبقوله: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [الزمر: 30]، يشير إلى نعيه صلى الله عليه وسلم، ونعي المسلمين إليهم؛ ليفرغوا بأجمعهم عن مأتمهم، ولا تعزيه في العادة بعد ثلاث، ومن لم يتفرغ من مأتم نفسه وأنواع همومه فليس له من هذا الحديث [في شيء]، فإذا أفرغ قلبه عن حديث نفسه وعن الكونين بالكلية فحينئذ يجد الخير من ربه، وليس هذا الحديث إلا بعد فنائهم عنهم؛ ولهذا أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام فقال:
"يا داود فرغ لي بيت أسكن فيه قال: يا رب أنت منزه عن البيت كله، قال: فرغ لي قلبك" ، وقال لنبينا صلى الله عليه وسلم: { { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [الشرح: 1]؛ يعني: ولي قلبك، وقال: { { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } [المدثر: 4]؛ أي: قلبك فطهر؛ أي: عن لوث تعلقات الكونين.
{ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } [الزمر: 31]، أي: تراجعون الحق تعالى لشفاعة أقربائكم وأهاليكم وأصدقائكم بعد فراغكم عن خويصة أنفسكم.
وبقوله: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى ٱللَّهِ وَكَذَّبَ بِٱلصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ } [الزمر: 32]، يشير إلى بعض مدَّعي هذا الحديث ممن يدَّعي ويكذب على الله بأنه أعطاه رتبة لم يذق بعد منها ما يشاء، وإذا وجد صديقاً جاءه بالصدق في المقال والأحوال كذبه، وينكره على صدقه، يكون حاصل أمره يوم القيامة قوله تعالى:
{ { وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تَرَى ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى ٱللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } [الزمر: 60]؛ ولهذا قال تعالى: { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } [الزمر: 32]؛ أي: لكافري النعمة.
{ وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ } [الزمر: 33]؛ أي: جاء به من الحق تعالى لا من عند نفسه؛ لأن الصدق ليس من المكاسب، بل هو من المواهب، { وَصَدَّقَ بِهِ } [الزمر: 33]؛ أي: الذي جاء بالصدق هو الذي صدق بالصدق إذ رآه مع غيره؛ لأن الصدق لا يرى إلا بالصدق، كما أن النور لا يرى إلا بالنور؛ ولهذا قال: { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ } [الزمر: 33]؛ أي: بنور الصدق يرون الحق والباطل فيتقون بالحق عن الباطل.
{ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ } [الزمر: 34]؛ لأنهم تقربوا إلى الله بالاتقاء به عما سواه، فأوجب الله في إدامة كرمه أن يتقرب إليهم بإعطاء ما يشاءون من عنده، بحسب حسن استعدادهم في الطلب بالتقرب من كمالات القرب والمشاهدة، { ذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ } [الزمر: 34]؛ أي: ذلك للقرب والمشاهدة جزاء من عمل على مشاهدة الحق؛ لأن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.