التفاسير

< >
عرض

وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي ٱلأَرْضِ مُرَٰغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
١٠٠
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَٰوةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنَّ ٱلْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً
١٠١
-النساء

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن المهاجرين وهم السابقون بقوله تعالى: { وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي ٱلأَرْضِ مُرَٰغَماً كَثِيراً وَسَعَةً } [النساء: 100]، والإشارة فيها: إن من غاية ضعف الإنسان، وجبانة الجيوانية، واستهواء الشيطانية يكون خوف البشرية غالباً على الطالب الصادق في بدء طلبه، فكلما أراد أن يسافر عن الأوطان ويهاجر عن الإخوان طالباً فوائد إشارة أن يسافروا تصحوا، وتغتنموا الإزالة مرض القلب ونيل صحة الدين والفوز بسنح كامل مكتمل، وطيب حاذق مشفق ليعالج مرض قلبه ويبلغه كعبة طلبه، فسولت له النفس إعواز الرزق وعدم الصبر، ويعده الشيطان بالفقر فقال تعالى: على قضيته { { وَٱللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً } [البقرة: 268]، { وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [النساء: 100]؛ أي: في طلب الله، { يَجِدْ فِي ٱلأَرْضِ مُرَٰغَماً كَثِيراً } [النساء: 100]؛ أي: بلاءً أطيب من بلاءه، وإخواناً في الدين أحسن من إخوانه، وسعة في الرزق، وفيه إشارة أخرى؛ وهي ومن يهاجر عن البشرية في طلب حضرة الربوبية يجد في الأرض الإنسانسة، { مُرَٰغَماً كَثِيراً } [النساء: 100] أي: متحولاً ومنازل مثل القلب والروح والسر، { وَسَعَةً } [النساء: 100] أي: وسعة في تلك العوالم الوسيعة وسعة من رحمة الله. كما أخبر تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم عن تلك العوالم الوسيعة بقوله: "لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن" ، فافهم يا كثير الفكر قصير النظر قليل العبر.
ثم قال تعالى دفعاً للهوى حبس النفسانية ووساوس الشيطانية في التخويف بالموت والإبعاد بالفوت { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ } [النساء: 100] أي: ببيت بشريته بترك الدنيا وقمع الهوى وقهر النفس بهجران صفاتها وتبديل أخلاقها { مُهَاجِراً إِلَى ٱللَّهِ } [النساء: 100] وطالباً له في متابعته، { وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ } [النساء: 100] قبل وصوله، { فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ } [النساء: 100]؛ يعني: فقد أوجب الله تعالى على ذمة كرمه بفضله ورحمته أن يبلغه إلى أقصى مقاصده وأعلى مراتبه في الوصول ينال على صدق نية وخلوص طوية إذا كان المانع من أجله، ونية المؤمن أبلغ من عمله، { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً } [النساء: 100]؛ لذنب بقية أنانية وجوده، { رَّحِيماً } [النساء: 100]، عليه بتجلي صفة جوده ليبلغ العبد إلى كمال مقصوده بمنِّه وكرمه وسعة وجوده.
ثم أخبر عن خوف الأعداء على طريق الأولياء بقوله تعالى: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَٰوةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنَّ ٱلْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً } [النساء: 101]، إلى قوله:
{ { عَذَاباً مُّهِيناً } [النساء: 102].
والإشارة فيها: إن الله تعالى خلق الخلق للعبودية والمعرفة، وقد جعلها مخبأة، فأما العبودية ففي صورة الصلاة، وأما المعرفة ففي التكبيرات والتسبيحات وسائر أركان الصلاة وشرائطها مودعة، وليس هذا موضع شرحها وسنبينها في موضعها إن شاء الله تعالى، فلهذا المعنى فرض الصلاة في الخوف وشدة القتال والحضر والسفر والصحة والمرض، فإن الصلاة صورة جذبة الحق ومعراج العبد؛ ليكون العبد مجذوب العناية على الدوام مترقياً مقامات العبودية والمعرفة، كما قال تعالى:
{ إِنَّ ٱلصَّلَٰوةَ كَانَتْ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ كِتَٰباً مَّوْقُوتاً } [النساء: 103]؛ يعني: واجباً في جميع الأوقات حين فرضت بقوله تعالى: { فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ } [النساء: 103]؛ أي: أديموها رخص فيها بخمس صلوات في خمسة أوقات بضرورة ضعف الإنسانية، كما كانت الصلاة خمسين صلاة حين فرضت ليلة المعراج فجعلها بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم خمساً وهذا لعوام الخلق، وأثبت دوام الصلاة للخواص بقوله: { ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ } [المعارج: 23].