التفاسير

< >
عرض

يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَىۤ أَنْفُسِكُمْ أَوِ ٱلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً
١٣٥
يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلْكِتَٰبِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَٱلْكِتَٰبِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِٱللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً
١٣٦
-النساء

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن قسط الشهداء ولو على الآباء والأقرباء بقوله تعالى: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ } [النساء: 135]، إشارة في الآية: أمر الله في خطابه مع المؤمنين حيث قال: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ } [النساء: 135] أمر تكوين وتحويل، فلا بد وأن يكونوا كما كونهم، نظيره قوله تعالى: { قُلْنَا يٰنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَٰماً } [الأنبياء: 69] فكانت كما أمرت وكونت، فلما قال تعالى للمؤمنين الذين كونوا مشاراً إليهم بذكر الإيمان: { كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ } [النساء: 135]، فيكونوا قائمين به وبحكمته البالغة وفي قوله: { شُهَدَآءَ للَّهِ } [النساء: 135]، إشارة إلى عوام المؤمنين أن كونوا شهداء الله بالتوحيد والوحدانية، { بِٱلْقِسْطِ } [النساء: 135] يوماً ولو كان في آخر نفس من عمرهم على حسب ما قدر لهم، ويكونهم كما شاء ومتى شاء بمشيئته الأزلية، وأشار إلى الخواص أن كونوا شهداء لله حاضرين مع الله بالفردانية، وأشار إلى أخص الخواص أن كونوا شهداء في الله غائبين عن وجودكم في شهوده بالوحدة.
ثم اعلم أن في إشارته إلى الخواص شركة للملائكة كما قال تعالى:
{ { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ } [آل عمران: 18]؛ وهي تدل على هذا التأويل، وأما إشارته إلى أخص من الأنبياء وكبار الأولياء؛ وهم أولوا العلم فمختصة بهم من سائر العالمين، وفي هذا سر عظيم لا يبخل بالعقول المجردة، فضلاً عن العقول المركبة المدنسة بدنس الوهم والخيال والخس، ولأولي العلم سير في شهود { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } [آل عمران: 18]، وليس للملائكة وأولوا العلم في هذا الشهود مدخل، إلا أنهم قائمون بالقسط في شهود الوحدانية والفردانية كما حذرنا، وهم بمعزل عن شهود الوحدانية، فافهم جيداً.
وفي قوله تعالى: { وَلَوْ عَلَىۤ أَنْفُسِكُمْ أَوِ ٱلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ } [النساء: 135]، إشارة إلى: إن كونوا شهداء لله في شهود الوحدة، { وَلَوْ عَلَىۤ أَنْفُسِكُمْ } [النساء: 135] بإفنائها، { أَوِ ٱلْوَٰلِدَيْنِ } [النساء: 135] بنفيهما في طلب الحق عن الالتفات والتعلق بهما. { وَٱلأَقْرَبِينَ } [النساء: 135]؛ أي: والأقربين، { إِن يَكُنْ } [النساء: 135] الوالدين، { غَنِيّاً } [النساء: 135] لا يحتاجون إلى التفاتك إليهما، { أَوْ فَقِيراً } [النساء: 135] يحتاجون إليك في النفقة وغيرها، { فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا } [النساء: 135]، فإنه خالقها ورازقهما لا أنتم، { فَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلْهَوَىٰ } [النساء: 135] رعاية حقوقهم، { أَن تَعْدِلُواْ } [النساء: 135] عن طلب الحق ورعاية حق الربوبية بالعبودية، فإن الله قدم العبودية على حقوقهما، وقال:
{ { لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [البقرة: 83]، ثم قال تعالى: { وَإِن تَلْوُواْ } [النساء: 135]؛ أي: وإن تتلوا أمرها، { أَوْ تُعْرِضُواْ } [النساء: 135] عن الله وطلبه، { فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ } [النساء: 135] في الأزل، { بِمَا تَعْمَلُونَ } [النساء: 135] اليوم، { خَبِيراً } [النساء: 135]، وإنه أعطاكم استعداد هذه الأعمال، وإنه بما تعملون اليوم يجازيكم غداً، واليوم بالخير خيراً وبالشر شراً، والله أعلم.
ثم أخبر عن الإيمان الحقيقي دون التقليدي وعلم أهل الإيمان بقوله تعالى: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلْكِتَٰبِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَٱلْكِتَٰبِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ مِن قَبْلُ } [النساء: 136]؛ فمعناه من آمن بالتقليد ظاهراً ينبغي له بالتحقيق والتصديق باطناً، وبالقول ظاهراً أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما نطق به الكتب والرسل من الوعد والوعيد، والبعث النشور والحساب، والميزان والصراط، والجنة وغير ذلك، يدل على هذا المعنى قوله تعالى: { وَمَن يَكْفُرْ بِٱللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } [النساء: 136] فقد أدرج جميع ما ذكرناه وجعلناه شرط الإيمان فيه، وحكم أن عدم الإيمان بهؤلاء كفر؛ يعني: عدم الإيمان بكل ما مر ذكره كفر.
ثم اعلم أن مراتب الإيمان ثلاث: مرتبة العوام، ومرتبة الخواص، ومرتبة الأخص، فمرتبة العوام في الإيمان: ما قاله صلى الله عليه وسلم:
"أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالبعث بعد الموت والجنة والنار والقدر خيره وشره" ؛ وهو إيمان غيبي، ومرتبة الخواص في الإيمان: هو عيان، وكان ذلك أن الله تعالى إذا تجلى بصفة من صفاته وخضع جميع أجزاء وجوده، وآمن بالكلية عياناً بعد ما كان يؤمن قلبه بالغيب، ونفسه تكفر بما آمن به قلبه، إذا كانت النفس عن تنسم روائح الغيب بمعزل، فلما تجلى الحق تعالى لحبل القلب { { جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَىٰ } [الأعراف: 143] النفس، { صَعِقاً } [الأعراف: 143]، فالنفس في هذا تكون بمنزلة موسى عليه السلام، { فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الأعراف: 143]، فافهم جيداً.
ومرتبة الأخص في الإيمان: غيبي وذلك بعد رفع حجب الأنانية بسطوات تجلي حجب الجلال، فإذا أفناه عنه بصفة الجلال يبقيه بصفة الجمال، فلم يبق له الدين وبقي في العين فيكون إيمان عينياً، كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج فلما بلغ قاب قوسين كان في حيزين فلما جذبته العناية من كينونية إلى عينونية أو أدنى،
{ { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ } [النجم: 10]، { ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ } [البقرة: 285]؛ أي: صفات ربه، فآمنت صفاته بصفاته، وذاته بذاته، فصار كل وجوده مؤمناً بالله إيماناً عينياً ذاته وصفاته، فأخبر عنهم فقال: { { وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ } [البقرة: 285]؛ يعني: آمنوا بهويته لا بأنانية وجودهم، فالله عز وجل من كمال رأفته ورحمته على عباده المؤمنين يشير إليهم بحقيقة هذا الإيمان بقوله تعالى: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } [النساء: 136]؛ يعني: من أنانيتكم آمنتم إيماناً غيبياً، { ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ } [النساء: 136]؛ يعني: فاسعوا إلى الله بقدم ذكره لعله بذكركم يغنيكم به عنكم، فتؤمنوا بهويته إيماناً عينياً، وتؤمنوا برسوله { وَٱلْكِتَٰبِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ } [النساء: 136]؛ يعني: من لم يكن له إيمان عيني في متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعرف الرسول عند هذا الكمال، فلا يكون إيمانه بالرسول حقيقياً، ولا بالكتاب الذي نزل على الرسول تلك الليلة، ولا { وَٱلْكِتَٰبِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ مِن قَبْلُ } [النساء: 136]، وذلك أن الكتب المنزلة كلها كانت مندرجة في الكتاب الذي أنزل على الرسول تلك الليلة في سر { { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ } [النجم: 10]؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "أوتيت جوامع الكلم" ، ولذلك ذكر الله { وَٱلْكِتَٰبِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ مِن قَبْلُ } [النساء: 136]، عقيب قوله: { وَٱلْكِتَٰبِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ } [النساء: 136]، ولم يذكر الرسل الذين أنزلت عليهم الكتب؛ ليعلم أن المشار إليه في ذكر { وَٱلْكِتَٰبِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ مِن قَبْلُ } [النساء: 136]؛ هو أيضاً الرسول، فالمؤمن يؤمن بهذا الرسول المنزل عليه جميع الكتب؛ ليكون إيمانه بالله ورسوله وكتبه حقيقياً لا تقليدياً - تفهم إن شاء الله - وتؤمن بهذا الإيمان إن لم تؤمن بحقيقته، فإن من يكفر بهذا الإيمان { فَقَدْ ضَلَّ } [النساء: 136] في نية أنانيته، { ضَلاَلاً بَعِيداً } [النساء: 136] عن الله ومعرفته ومعرفة رسوله وكتبه والإيمان بهم، فافهم جيداً.