التفاسير

< >
عرض

يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ ٱنتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً
١٧١
لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً
١٧٢
-النساء

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن أهل الغلو وهم أهل السلو بقوله تعالى: { يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ } [النساء: 171]، الإشارة أن الغلو والمبالغة في الدين والمذهب حتى يجاوز حداً غير مرضٍ، كما أن كثير من هذه الأمة غلواً في مذهبهم، فمن ذلك مذهب الغلاة من الشيعة على أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه حتى ادعوا بإلهيته فقال: الشاعر فيهم:

قوم غلوا في علي لا أبالهم واجتثموا أنفاً في عبده نصباً
قالوا هل الله جل خالقنا عن أن يكون بشيء أو يكون أبا

وكذلك المعتزلة غلوا في التنزيه حتى نفوا صفات الله، وكذلك المشبهة غلوا حتى في إثبات الصفات حتى جسموه، { وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً } [الإسراء: 43] ولدفع الغلو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تطروني كما أطرت التصارى عيسى ابن مريم" ، فقال تعالى: { يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } [النساء: 171]، وذلك لأن الغلو من العصبية وهي من صفات النفس المذمومة، والنفس هي أمارة بالسوء ولا تأمر إلا بالباطل، والإشارة في قوله تعالى: { لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ } [النساء: 171]، إلى ألاَّ تتكلموا في الدين بأمر النفس؛ لأنها لا تأمركم بالقول الحق، { وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ } [النساء: 171] إلا بأمر القلب، لأنه بين أصبعين من أصابع الرحمن، فلا يأمر إلا بالقول الحق، { إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ } [النساء: 171] لا ابن الله وهذا هو القول الحق، وكذلك ما قاله عيسى عليه السلام: { { إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ } [مريم: 30]، وفي قوله تعالى: { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } [النساء: 171]، إشارة إلى أن عيسى عليه السلام كان يكلمه الله تعالى، وهي قوله: { { كُن فَيَكُونُ } [آل عمران: 59]، بكلمته من غير واسطة أب، فإن تكوين الخلق كلمة بكلمة كن، ولكن بالوسائط بأن يتعلق كن بتكوين الأبناء، فلما كان تعلق أمر كن بعيسى عليه السلام في رحم مريم من غير تعلقه بتكوين أب له فتكون عيسى عليه السلام بأمركن وكن هي كلمة الله، فعبر عن ذلك بقوله تعالى: { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ } [النساء: 171]، يدل عليه قوله تعالى: { { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ } [آل عمران: 59]؛ يعني: في التكوين، { كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [آل عمران: 59]؛ يعني: سوى جسمه من تراب، ثم قال له؛ يعني: عند بعث روحه إلى القلب { { كُن فَيَكُونُ } [آل عمران: 59]، وإنما ضرب مثله بآدم في التكوين؛ لأنه أيضاً تكون بكلمة من غير واسطة أب، وشرف الروح على الأشياء بأنه أيضاً تكون بأمر كن بلا واسطة شيء آخر، فلما تكون بأمر كن يكون كن سمي روح منه؛ لأن الأمر منه كما قال تعالى: { { قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [الإسراء: 85]، وكما أن إحياء الأجسام الميتة من شأن الروح إذ ينفخ فيها، فكذلك كان عيسى عليه السلام من شأنه إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص بإذن الله، وكذلك ينفخ في الطين كهيئة الطير فيكون طيراً بإذن الله.
ثم اعلم أن هذا الاستعداد الروحانية الذي هو من كلمة الله مركوز في جبلة الإنسان وخلق منه؛ أي: من الأمر، وإنما أظهره الله تعالى في عيسى عليه السلام من غير تكلف منه في السعي لاستخراج هذا الجوهر من معدنه؛ لأن روحه لم تركض أصلاب الآباء وأرحام الأمهات كأرواحنا، فكان جوهره ظاهراً في معدن جسمه غير مخفي فيه ببشرية أب، وجوهرنا مخفي في معدن جسمنا ببشرية آبائنا إلى آدم عليه السلام، فمن ظهور أنوار جوهر روحه كان الله تعالى يظهر عليه أنواع المعجزات في بدء طفوليته، ونحن نحتاج في استخراج الجوهر الروحاني عن المعدن الجسماني إلى نعل صفات البشرية المتولدة من بشرية الآباء والأمهات من سعادتنا بأوامر الاستاذ هذه الصفة ونواهيه هو النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى:
{ { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ } [الحشر: 7]، فمن تخلص جوهر روحانيته من معدن بشريته وإنسانيته يكون عيسى وقته فيحيي الله بأنفاسه القلوب الميتة، ويفتح به آذاناً صماً، وعيوناً عمياً، فيكون في قومه كالنبي في أمته، فافهم جيداً.
ثم قال تعالى: { فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ ٱنتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ } [النساء: 171]؛ يعني: إن أردتم التوحيد الحقيقي فآمنوا بالله الذي خلقكم، وجعل بشريتكم معدن جوهر روحانيتكم، وجعل روحانيتكم معدن جوهر وحدانيته، فبنور وحدانيته يتحقق لكم أن { وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ } [النساء: 171]؛ يعني: نفوسكم والرسول والله تعالى، فتنتهوا بنظر الوحدة عن رؤيته الثلاثة فيكشف لكم { إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } [النساء: 171]؛ أي: إن يتولد من وحدانيته شيء { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } [النساء: 171]، إيجاداً واقتداراً، وبه ظهر ما ظهر ومنه صدر ما صدر، وليس لشيء وجود حقيقي، وله الوجود الحقيقي القائم الدائم أولاً وآخراً، أو ظاهراً وباطناً،
{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [القصص: 88]؛ وهو الوكيل لكل هالك، { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } [النساء: 171].
ثم أخبر عمن يتفاخر بربوبيته وعمن يستنكف عن عبوديته بقوله تعالى: { لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } [النساء: 172]، إلى قوله:
{ { وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } [النساء: 173]، والإشارة فيهما: لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله؛ لأن العبدية كانت من شأنه في رضاعه، وإن نطق بها قبل أوان نطقه بقوله: { إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ } [مريم: 30]، و"عَادَةٌ تَرَضَّعَتْ بِرُحِها تَنَزَّعَتْ"، وكيف يستنكف عن عبوديته وقد أثر عليه آثار ربوبيته بإحياء الموتى، وإبراء الزَّمني قال تعالى: { وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } [النساء: 172]، ما ذكرهم للفضيلة على عيسى عليه السلام وإنما ذكر ذكرهم لأن بعض الكفار قالوا بنات الله، كما قالت النصارى المسيح ابن الله، كما قال تعالى: { { أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنْثَىٰ * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ } [النجم: 21-22]، بل فضل الله تعالى المسيح عليه السلام عليهم بتقديم الذكر؛ لأن المسيح نسب إليه بالنبوة ونسبت الملائكة إليه بالبنتية، وللذكر فضيلة وتقدم على الإناث كقوله تعالى: { فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنثَيَيْنِ } [النساء: 176]، فقدم الذكر على الأنثى وجعل له سهمين وللأنثى واحداً، فكما أن للذكر فضيلة على الأنثى، فكذلك للمسيح فضل على الملائكة، وفضيلته على الملائكة أكثر وأعظم، يدل عليه ما صح عن جابر عن عبد الله رضي الله عنه أن الله تعالى لما خلق آدم عليه السلام وذريته قالت الملائكة: يا رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون ويركبون فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة، قال الله تبارك وتعالى: "لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فيكون" .
قال الشيخ المصنف -رحمه الله - وهذا من فضيلة عيسى عليه السلام، فافهم جيداً.
ثم قال تعالى: { وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً } [النساء: 172]، الإشارة: إن المستنكف والمستكبر والمؤمن والولي والنبي محشرهم ومرجعهم إليه جميعاً، كما صرح به بقوله تعالى:
{ { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } [لقمان: 15]، وقال تعالى: { إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجْعَىٰ } [العلق: 8]، فالولي مرجعه إلى لطف الله ورحمته، والعدو مرجعه إلى قهر الله وعقوبته، وصورتهما الجنة والنار.