التفاسير

< >
عرض

يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ ٱلرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ ٱلأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً
٤٢
يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن ٱلْغَآئِطِ أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً
٤٣
-النساء

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

{ يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ ٱلرَّسُولَ } [النساء: 42]؛ أي: كل فرقة رسولهم { لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ ٱلأَرْضُ } [النساء: 42]، حجالة عن الله والإشهاد وخوفاً من العذاب والنار، وحسرة { { عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّهِ } [الزمر: 56] بإبطال استعداد الفطرة { { ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا } [الروم: 30]، وتقصيراً استعمال وصرفه في الاستكمال الذي صرفه إليه غيرهم، { وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً } [النساء: 42]؛ يعني: إذا جحدوا مع الله وكتموا كفرهم بقولهم: { وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [الأنعام: 23].
ثم أخبر عن خسران السكران بقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ } [النساء: 43]، إشارة في الآية: إن الصلاة هي معراج المؤمن وميقات مناجاته، والمصلي هو الذي يناجي ربه، فقال تعالى: { لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ } [النساء: 43]، يا أهل الإيمان، { حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } [النساء: 43] في مناجاتكم مع ربكم، فيه دلالة على أن من يصلي ولا يعلم ما يقول ومع من يقول فحكمه حكم السكران الساهي عما يقول، فيكون حاصله من الصلاة الويل، كما قال تعالى:
{ { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * ٱلَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ } [الماعون: 4-5]، وفيه إشارة أخرى: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [النساء: 43]، يا مدعي الإيمان لا تجدون القربة في الصلاة وأنتم سكارى من الغفلات وتتبع الشهوات، حتى تعلموا ما تقولون في مناجاتكم مع ربكم، ولماذا تقولون كما تقولون الله أكبر لتكبيرة الإحرام عند رفع اليدين، ومعناه الله أعظم وأجل من كل شيء، وإن كنت تعلم عند التقول به فينبغي أن لا تكون في تلك الحالة في قلبك عظمة شيء آخر، وإمارة ذلك ألا تجد ذكر شيء في قلبك مع ذكره ولا محبة مع طلبه، فإنه تبارك وتعالى واحد لا يقبل الشركة في جميع صفاته، وإلا كنت كاذباً في قولك: الله أكبر، بالنسبة إلى حالك، وكذلك عند قولك: { وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [الأنعام: 79]، فإن كان في قلبك توجه إلى شيء من الدنيا والآخرة ولك مطلوب غير الله فأنت كاذب في ذلك، فقس الباقي على هذا، فإن جميع حركاتك في أثناء الصلاة وكلماتك تشير إلى سر من أسرار الرجوع والعروج من مقام البشرية إلى حضرة الربوبية، فإن كنت غافلاً عن هذه الأسرار والإشارات فتكون كالسكران لا تجد القربة من صلاتك؛ لأن القربة مشروطة بشرط السجود كما خوطبت: { { وَٱسْجُدْ } [العلق: 19]؛ أي: تنزل مركب أوصاف وجودك لتحمل على رفرف وجوده إلى قاب قوسين أوصاف وجوده لشهود جماله وجلاله، وهذا هو ستر التشهد بعد السجود.
ثم قال تعالى: { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } [النساء: 43]؛ يعني: كما أنكم لا تجدون القربة وأنتم سكارى من الغفلات، أيضاً لا تجدونها مع جناية استحقاق العبد؛ وهي ملامسة الدنيا الدنية، إلا على طريق العبور بقدم ظاهر الشرع سبيل الأوامر والنواهي، { حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ } [النساء: 43]، بماء التوبة والإنابة، وصدق الطلب وحسن الإرادة، وخلوص النية جناية ملامسته الدنيا وشهواتها، { وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ } [النساء: 43]، بانحراف مزاج القلب في طلب الحق، { أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ } [النساء: 43]، كتردد بين طلب الدنيا وطلب العقبى والمولى، { أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن ٱلْغَآئِطِ } [النساء: 43]، من غائط تتبع الهوى، { أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } [النساء: 43]؛ أي: لامستم الأشغال الدنيوية، فأجبتم وتباعدتم عن الله تعالى بعد ما كنتم مجاوري حظائر القدس، وزلفتم في رياض الأنس { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً } [النساء: 43]، صدة الإنابة والرجوع إلى الحق بالإعراض والانقطاع عن الخلق، { فَتَيَمَّمُواْ } [النساء: 43]؛ أي: فاقصدوا، { صَعِيداً طَيِّباً } [النساء: 43]، وهو شراب أقدام الرجال الطيبين من سوء الأخلاق والأعمال، { فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ } [النساء: 43] تراب أقدامهم { وَأَيْدِيكُمْ } [النساء: 43]، وتمسحوا بأيديكم أذيال كرامهم مستسلمين بصدق الإرادة لأحكامهم، { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً } [النساء: 43] عنكم التقصير والانقطاع إليه بالكلية، ولعل يعفو عنكم التلون بالدنيا الدنية بهذه الخصلة المرضية، { غَفُوراً } [النساء: 43] لكم آثار الشقوة من غبار الشهود، فإنه يسعد بهم أنيسهم؛ لأنهم قوم لا يشقى بهم جليسهم.