التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً
٥٧
إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً
٥٨
يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً
٥٩
-النساء

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن الذين انتبهوا بقوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } [النساء: 57]، إشارة في الآيتين: إن قوله: { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [النساء: 57]، معطوف على ما قبله من ذكر علماء السوء المنكرين؛ يعني: والذين صدقوا منهم أولياء الله عليهم من المواهب الربانية والعلوم اللدنية، وأصغوا إلى كلامهم وأقبلوا على صحبتهم وتابعوهم في السير إلى الله تعالى، { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } [النساء: 57]؛ يعني: بإشاراتهم أعمالاً صالحة لسلوك سبيل الله والوصول، { سَنُدْخِلُهُمْ } [النساء: 57]؛ يعني: سنجزيهم بجذبات العناية إلى { جَنَّاتٍ } [النساء: 57] القربة والوصلة، { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } [النساء: 57]، من ماء الحكمة، ولبن الفطرة، وخمر الشهود، وعسل الكشوف، { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } [النساء: 57]، مخلدين في الوصلة مؤيدين { أَبَداً } [النساء: 57] من غير الفرقة، { لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ } [النساء: 57]، من تجلي صفات الجلال والجمال، { مُّطَهَّرَةٌ } [النساء: 57] من الوهم والخيال، { وَنُدْخِلُهُمْ } [النساء: 57] بالجذبة من ظل الوجود المجازي، { ظِـلاًّ ظَلِيلاً } [النساء: 57] من الوجود الحقيقي الذي لا مجاز بعده، يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله" .
والإشارة في قوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا } [النساء: 58]، عقيب قوله: { وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً } [النساء: 57] أن الوجود المجازي كان عندكم أمانة من الله تعالى، كما أن وجود الظل مجازي بالنسبة إلى الشمس، وهذا أمانة من الشمس عند الظل، فإذا انجلت الشمس للظل تقول بلسان الجلال للظلال: إن الشمس تأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، فتلاشت الظلال واضمحلت وانمحت الآثار، وبقي الواحد القهار، وهذا أحد أسرار قوله تعالى: { { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ } [الرعد: 15].
ثم قال تعالى: { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ } [النساء: 58]؛ يعني: يأمركم بعد فناء الوجود المجازي وبقاء الوجود الحقيقي أن تحكموا بالعدل بين الروح والقلب والبدن؛ كيلا يظلم بعضهم على بعض، ويواظب البدن على وظائف الشريعة، وتتأدب النفس بآداب الطريقة، ويراقب القلب بشواهد اللقاء، ويلازم الروح عتبة الفناء بواردات سلطان البقاء، { إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ } [النساء: 58]؛ أي: نعماً يعظكم بطلبه، فيه تعظيم قدر المطلوب وتعظيم قدر طريق الطلب، ورعاية المطلوب بعد وجدانه، { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ } [النساء: 58] في الأزل، { سَمِيعاً } [النساء: 58] بمقالات أصحاب الحوائج عند استدعاء الحاجات من ربهم قبل وجودهم، فأعطاهم إياهم قبل السؤال، { بَصِيراً } [النساء: 58] بمعاملاتهم فيما أعطاهم وصرفه في الحق والباطل فيجازيهم بها إلى الأبد.
ثم أخبر عن طريق صرف ما لا يحق في الحق بقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ } [النساء: 59].
والإشارة فيها: إن الخطاب في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [النساء: 59] مع القلب والروح والسر، فإنهم آمنوا على الحقيقة لوهم استعداد قبولهم للإيمان ونوره وهم المخاطبون بقوله تعالى: { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ } [النساء: 59]، فطاعة القلب: لله في أن يحب الله وحده لا يحب معه أحداً له، وطاعة الروح: ألاَّ يلتفت إلى غير الله في الطلب ولا يطلب منه إلا هو، وطاعة السر: في ألاَّ يرى غير الله في الوجود، كما قال بعضهم: ما في الوجود سوى الله { وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ } [النساء: 59]؛ يعني: كونوا بحكم وارد الوقت، فكما أن طاعة الرسول الظاهر هي قوله تعالى:
{ وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ } [الحشر: 7]، وكذلك طاعة الرسول، وأراد الحق في الباطن هو أن يأخذوا ما أتاهم، وأراد الحق بحكم الوقت مراً كان أو حلواً أن لا يعترضوا عليه ولا يعرضوا عنه، ويصبروا عليه صبر الرجال، وينتهوا عما نهاهم بالشواهد والإشارات، وأما بالأحوال أو وقوع الواقعات يدل على هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم لوابصة بن معبد: "استفت قلبك يا وابصة، ولو أفتاك المفتون" { وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ } [النساء: 59]؛ يعني: مشايخكم ومن بيده أمر تربيتكم، فإن أولي الأمر المريد شيخه في التربية، فينبغي للمريد أن يكل وارد حق يدق باب قلبه، وإشارة وإلهام، وواقعة تنبئ وتخبر عن أعمال وأحوال في حقه تضرب على محك نظر شيخه فيما يرى فيه الشيخ، فأولي الأمر الكتاب والسنة، فينبغي له أن ما سنح له من الغيب بوارد الحق من الكشوف والشواهد والأسرار والحقائق أن يضرب على محك الكتاب والسنة فيما صدقاه، ويحكمان عليه فقبله يكون بحكمه، { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } [النساء: 59]، يحتمل معنيين:
أحدهما: منازعة النفس مع القلب والروح والسر فيما يرد عليهم من الحق، أو فيما يحكم به الشيخ { فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } [النساء: 59]؛ يعني: إلى الكتاب والسنة.
والثاني: منازعة القلب فيما يحكم به الكتاب والسنة، نزاعاً من قصور الفهم والدراية وإدراك دقائقها والكشف عن حقائقها، { فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ } [النساء: 59] بمراقبة القلوب بشواهد الغيوب، وإلى رسول وارد الحق بصدق النية وصفاء الطوية عن كدورات البشرية، { إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } [النساء: 59]؛ أي: بنور آمنتم الذي شرح الله صدوركم للإسلام، وبرسول وارد الحق إلى قلوبكم للإيمان { وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } [النساء: 59] شاهدتم بنور الله اليوم الذي بعد يوم الدنيا وآمنتم به، { ذٰلِكَ خَيْرٌ } [النساء: 59]؛ يعني: ذلك الإيمان الإيقاني بشهود نور الرباني خير من تعلم الكتاب والسنة بالتقليد دون التحقيق، { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [النساء: 59]، عاقبة وجزاء في الحال والمال.