التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي
ثم أخبر عمن يسلم إذا ألقى السلم بقوله تعالى: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [النساء: 94]، والإشارة فيها إلى البالغين الواصلين بالسير إلى الله تعالى؛ أي: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [النساء: 94]، وما قنعوا على مجرد الإيمان بالغيب، { إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [النساء: 94]؛ يعني: بل سرتم بقدم السلوك في طلب الحق، حتى صار الإيمان إيقاناً، والإيقان إحساناً، والإحسان عياناً، والعيان غيباً، وصار الغيب شهادة، والشهادة شهوداً، والشهود شاهداً، والشاهد مشهوداً، وبهما اقسم الله تعالى بقوله { { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } [البروج: 3]، فافهم جيداً، وهذا مقام الشيخوخة { فَتَبَيَّنُواْ } [النساء: 94] عن حال المريدين وتثبتوا في الرد والقبول، وفي قوله تعالى: { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىۤ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً } [النساء: 94]، وألقي إليكم السلام بالانقياد والاستسلام، فلا تقولوا: ألست مؤمناً؟ أي: صادقاً مصدقاً في التسليم لأحكام الصحبة، وقبول التصرف في المال والنفس بشرط الطريقة، ولا تردوه ولا تنفروه بمثل هذه الشدائد، وقوله كما أمر الله موسى وهارون عليهما السلام { { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً } [طه: 44]، فما أنتم أعز من الأنبياء، ولا المريد المبتدئ أذل من فرعون، ولا يهونكم أمر رزقه فتجتنبون منه للتخفيف، وإلى هذا المعنى أشار بقوله تعالى: { تَبْتَغُونَ عَرَضَ ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا } [النساء: 94]، فلا تهتموا لأجل الرزق { فَعِنْدَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ } [النساء: 94]، { { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [الطلاق: 2-3]، { كَذٰلِكَ كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ } [النساء: 94]؛ أي: كذلك كنتم ضعفاء بالصدق والمطلب محتاجين إلى الصحبة والتربية والإرادة من قبل، { فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ } [النساء: 94] بصحبة المشايخ وقبولهم إياكم والإقبال على تربيتكم وإيصال رزقكم إليهم وشفقتهم وعطفهم عليكم، { فَتَبَيَّنُواْ } [النساء: 94]، أن تردوا صادقاً اهتماماً لرزقه، وتقبلوا كاذباً حرصاً على كثير المريدين، { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ } [النساء: 94] في الأزل، { بِمَا تَعْمَلُونَ } [النساء: 94] اليوم من الرد والقبول والاحتياج إلى الرزق تهتمون له، { خَبِيراً } [النساء: 94]، فدبر الأمور وقدرها في الأزل وفرغ منها، كما قال: صلى الله عليه وسلم "إن الله تعالى فرغ من الخلق والخلق والرزق والأجل" .
وقال صلى الله عليه وسلم: "الضيف إذا نزل، نزل برزقه، وإذا ارتحل، ارتحل بذنوب مضيفه" .
ثم أخبر عن فضل المؤمن المجاهد على المؤمن القاعد بقوله تعالى: { لاَّ يَسْتَوِي ٱلْقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [النساء: 95] إلى قوله: { { غَفُوراً رَّحِيماً } [النساء: 96].
والإشارة فيها: ألاَّ يستوي القاعدون عن طلب الحق، وإن كانوا أولي العذر من المؤمنين العالمين المتقين، { وَٱلْمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [النساء: 95] في طلب الحق القائمون في أداء حقوق الطلب، { بِأَمْوَٰلِهِمْ } [النساء: 95]؛ أي: بترك الدنيا { وَأَنْفُسِهِمْ } [النساء: 95]؛ أي: ببذل الوجود في طلب المعبود، { غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ } [النساء: 95]، غير بالرفع صفة المجاهدين؛ يعني: في الله حق جهاده ولا يرون ضرر الجهاد وضرراً على أنفسهم من بذل المال والأنفس، يدل عليه قوله تعالى: { { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ } [النساء: 65]، ثم قال تعالى: { فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَٰهِدِينَ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } [النساء: 95]؛ يعني: فضلهم بفضيلة الولاية، والتوفيق لبذل المال والنفس على القاعدين يدل عليه قوله تعالى: { وَقِيلَ ٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْقَاعِدِينَ } [التوبة: 46]، وذلك القيل ما كان من طريق القوم الخذلاء لما خذلهم الله تعالى ولم يوفقهم للقيام، كما قيل لهم: { { ٱقْعُدُواْ } [التوبة: 46]، وقوله تعالى: { عَلَى ٱلْقَٰعِدِينَ دَرَجَةً } [النساء: 95]؛ يعني: للمجاهدين فضيلة درجة الولاية على القاعدين، ثم عمم القول في المجاهد والقاعد بلا عذر، فقال تعالى: { وَكُـلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ } [النساء: 95]؛ يعني: الجنة فيما بين الواصلين البالغين والطالبين المنقطعين بعذر، وعوام المؤمنين القاعدين عند الطلب بلا عذر، ثم خص المجاهدين بالانفراد في نيل الدرجات والوصول إلى القربات، فقال تعالى: { وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَٰهِدِينَ } [النساء: 95] بعد الطالبين والواصلين مطلقاً، { عَلَى ٱلْقَٰعِدِينَ } [النساء: 95]؛ يعني: المنقطعين بعذر أو بغير عذر مطلقاً، { أَجْراً عَظِيماً } [النساء: 95]، وعظم الأجر على قدر مراتب الطالبين والواصلين، وخصهم بدرجات منه لا من غيره، فقال تعالى: { دَرَجَاتٍ مِّنْهُ } [النساء: 96]؛ أي: قربات منه، { وَمَغْفِرَةً } [النساء: 96] منه لبعضهم؛ وهو أن يتجلى بصفة الغفران لهم فيكونوا مستورين بصفاته لا منتفيِّن بصفاته عن صفاتهم، لا فانين عن ذواتهم بذاته.
{ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [النساء: 96]؛ يعني: يكون الله تعالى بذاته غفوراً، والغفور للمبالغة؛ يعني: كثير الغفران لبعضهم حتى يغنيهم عن ذواتهم ويبعثهم برحمة ذاته تعالى وتقدس، فافهم واغتنم هذا الجهاد الكبر.