التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي
ثم أخبر عن تبيين الدين بقوله تعالى: { شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ } [الشورى: 13] يشير إلى أصول الدين أنها لم تختلف في جميع الشرائع، فأما الفروع فمختلفة فالآية تدل على أن مسائل أحكامها في جميع الشرائع واحدة، ثم بين بقوله: { أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ } [الشورى: 13]؛ أي: في الأصول؛ وهي التوجه إلى الله بالكلية في صدق الطلب بتزكية النفس عن الصفات الذميمة، وتصفية القلب عن تعلقات الكونين، وتحلية الروح بالأخلاق الربانية، ومراقبة السر بكشف الحقائق وشواهد الحق، { وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } [الشورى: 13]؛ أي: في الدين تفرق أهل الأهواء بالبدع بحسبان المعرفة والبراهين المعقولة، { كَبُرَ عَلَى ٱلْمُشْرِكِينَ } [الشورى: 13] مشرك أهل الأهواء والسمعة والرياء { مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } [الشورى: 13] من التوحيد والوحدة.
وبقوله: { ٱللَّهُ يَجْتَبِيۤ إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيۤ إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } [الشورى: 13] يشير إلى مقامي المجذوب والسالك، فإن المجذوب من الخواص اجتباه في الأزل وسلكه في سلك من يحبهم واصطنعه لنفسه تعالى، وجذبه به عن الدارين بجذبة توازي عمل الثقلين { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } [القمر: 55]، والسالك من العوام الذين سلكهم في سلك من يحبونه موفقين للهداية على قدمي الجهد والإنابة، إلى سبيل الرشاد في طريق العناد، { وَمَا تَفَرَّقُوۤاْ } [الشورى: 14]؛ يعني: أهل الأهواء والبدع { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ } [الشورى: 14] من الكتاب والسنة { بَغْياً بَيْنَهُمْ } [الشورى: 14]؛ أي: حسد بعضهم على بعض طلباً للرئاسة والقدرة والشهرة، { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } [الشورى: 14] بافتراقهم ثلاثة وسبعين فرقة افتراق كل فرقة في زمان معين، { لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ } [الشورى: 14] بالهداية.
وبقوله: { وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُورِثُواْ ٱلْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ } [الشورى: 14] يشير إلى الذين أورثهم الكتاب، الذين اصطفيناهم من العباد بعد أهل الأهواء والبدع، { لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ } [الشورى: 14] من افتراق المبتدعين { مُرِيبٍ } [الشورى: 14] لباطليتهم، { فَلِذَلِكَ } [الشورى: 15]؛ أي: لبطلان مذاهب الأهواء والنوع { فَٱدْعُ } [الشورى: 15] إلى صراط مستقيم السنة { وَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ } [الشورى: 15] بالكتاب في الدعاء والطاعة، أمر الكل بالاستقامة وأقره الداعي بذكر الاستقامة واختصمه به لاستقامة تبعية، ثم قال: { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِن كِتَابٍ } [الشورى: 15]؛ ليعلم أن إتباع الأهواء ضلالة وإن كان مقروناً بشبه المعقول، والإيمان بما أنزل الله في التوحيد والمعرفة، وإثبات الصفات ونفي التشبيه والتعطيل هداية، { وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ } [الشورى: 15]؛ أي: لأستوي بين أهل الأهواء وبين أهل السنة بترك البدعة ولزوم الكتاب والسنة؛ ليندفع الافتراق ويكون الاجتماع، { ٱللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } [الشورى: 15] لا الهوى { لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } [الشورى: 15] مقبولاً للسنة لا علينا وعليكم، مردوداً للبدعة، { لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } [الشورى: 15]؛ أي: خصومة بالأهواء والعصبية، { ٱللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا } [الشورى: 15] في المرافقة بالسير إلى الله، { وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } [الشورى: 15] بانتهاء السير إلى الله كقوله: { { وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ } [النجم: 42].