التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي
ثم أخبر عن طريق كل فريق منهم بقوله تعلى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ } [الزخرف: 26] يشير إلى إبراهيم القلب إذ قال لأبيه: وهو الروح، وقومه: وهم النفس وصفاتها وهواها { إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ } [الزخرف: 26] من الروحانيات والمعقولات والنفسانيات وشهوات الدنيا وزخارفها، { إِلاَّ ٱلَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } [الزخرف: 27] به يشير إلى أن ليس لشيء من المخلوقات الهداية إلى الله إلا بالله كما قال صلى الله عليه وسلم: "والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا" ، وقال صلى الله عليه وسلم: "بعثني الله مبلغاً وليس لي من الهداية شيء" ، فبهذا المعنى يتحقق لك أن كل من ادعى معرفة الله والوصول إليه بطريق العقل والرياضة والمجاهدة من غير متابعة الأنبياء، وإرشاد الله من الفلاسفة والبراهمة والرهابنة، فدعواه باطلة ومتمناه كاسدة.
وفيه إشارة أخرى وهي: إن الله تعالى إذا أرشد عبداً من عباده هداه إلى صراط مستقيم معرفته، وإن لم يبلغه دعوة نبي، أو إرشاد ولي، أو نصح ناصح، ولا يتقيد بتقليد آياته وأهل بلده من أهل الضلالة والأهواء والبدع، ولا يؤثر فيهم شبههم ودلائلهم المعقولة المشوبة بالوهم والخيال ولا يخاف في الله لومة لائم، كما كان حال إبراهيم عليه السلام فإنه لم يبلغه دعوة نبي، ولا إرشاد ولي، ولا نصح ناصح، فلما آتاه الله رشده قال: { لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ ٱلَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } [الزخرف: 26-27]، وفي زماننا هذا أهل الأهواء والبدع ممن لم يرشدهم الله، فإنهم متقيدون بتقليد آبائهم المبتدعة بحيث لا يؤثر فيهم آيات القرآن والأحاديث الصحيحة، والبراهين القاطعة مع دعوى الإسلام والإيمان، ويقولون كما قال الأولون من الكفار: { { إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [الزخرف: 23] ولعمري أن هذه المصيبة قد عمت بحيث لا يمكن تداركها إلا ما شاء الله، والمعصوم من عصمه الله من هذه الفتنة والبلاء وهم الذين قال تعالى فيهم: { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً } [الزخرف: 28] وهي لا إله إلا الله { فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الزخرف: 28] إلى الله على قدمي اعتقاد أهل السنة والجماعة والأعمال الصالحة على قانون المتابعة بنور هذه الكلمة الباقية، ثم قال في حق أهل الأهواء والبدع والضلالة: { بَلْ مَتَّعْتُ هَـٰؤُلاَءِ وَآبَآءَهُمْ } [الزخرف: 29] من الدنيا وشهواتها فأسكرهم حب الدنيا وأصمهم وأعمى أبصارهم { حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ } [الزخرف: 29] من دلائل القرآن، { وَرَسُولٌ مُّبِينٌ } [الزخرف: 29] قد بيَّن الحق والباطل بالأحاديث الصحيحة، { وَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ } [الزخرف: 30] من أرباب الدين وأهل الحق { قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ } [الزخرف: 30]؛ أي: ينظرون إلى الحق وأهله كمن ينظر إلى السحر وساحره، ويقولون بلسان الحال: { وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ } [الزخرف: 30].
{ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ } [الزخرف: 31]؛ أي: حكم القرآن وأسراره وحقائقه التي ينطق بها فقير لا يؤثر به { عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31]؛ أي: من علماء البلاد وأفاضلهم، { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ } [الزخرف: 32]؛ أي: الولاية، { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ } [الزخرف: 32] ولايتهم، { مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [الزخرف: 32] وذلك في قسمة المحبة الأزلية من المحبين بإشارة يحبهم ويحبونه، { وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً } [الزخرف: 32] كاتخاذ المشايخ المحققين المريدين الصادقين سخرياً بالتربية، { وَرَحْمَتُ رَبِّكَ } [الزخرف: 32] من الولاية، { خَيْرٌ } [الزخرف: 32] لأهلها { مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [الزخرف: 32] أهل الدنيا.