التفاسير

< >
عرض

أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ
٢٣
وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ
٢٤
وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱئْتُواْ بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٢٥
قُلِ ٱللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
٢٦
وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاَعةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ ٱلْمُبْطِلُونَ
٢٧
-الجاثية

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن جزاء أهل الأهواء؛ أي: بقوله تعالى: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ } [الجاثية: 23]، يشير إلى الفلاسفة والدهرية والطائفية، من لم يسلك سبيل الإتباع، ولم يستوف أحكام الرياضة بتأديب الطريقة على قانون الشريعة، ولم ينسلخ هواه بالكلية، ولم يؤدبه، ولم يسلكه إمام مقتدى في هذا الشأن من أرباب الوصال والوصول، بل اقتدى بأئمة الكفر والضلالة، وانتفى آثارهم بالشبهات العقلية وحسبان البراهين القطعية؛ فوقع في شبكة الشيطان، فأخذه بزمام هواه، وأضله في نبه هواه، وربما دعاه إلى الرياضة وترك الشهوات؛ لتصفية العقل وسلامة الفكر، فيمينه إدراك الحقائق حتى أوبقه في وهدات الشبهات فيهم في كل ضلالة، ويضل في كل فج عميق، وأصبح خسرانه أكثر من ربحه، ونقصانه أوفر من رجحانه، { وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ } [الجاثية: 23]؛ لئلا يسمع الحق، { وَقَلْبِهِ } [الجاثية: 23]؛ لئلا يفهم الحق، { وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً } [الجاثية: 23]، لئلا يرى الحق { فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ } [الجاثية: 23]؛ أي: لا يقدر على هدايته إلا الله، { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } [الجاثية: 23]، أرباب العقول السليمة أنهم في ضلالة بعيد يعملون القرب على ما يقع لهم من نشاط نفوسهم زمامهم بيد هواهم، أولئك أهل المكر استدرجوا من حيث لا يشعرون.
{ وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ } [الجاثية: 24]، يشير إلى أن من ختم الله على قلبه انحسم مادة نظره إلى عالم الآخرة، كالأنعام لا ترى إلا عالم الحس، فلا يؤمن بما في الغيب من البعث وتنكره، { وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ } [الجاثية: 24]؛ أي: بإنكار البعث { إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } [الجاثية: 24] الظنون الكاذبة.
{ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَاتٍ } [الجاثية: 25] لا يسمعون؛ لأن سمعهم مختوم عليه { مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ } [الجاثية: 25] عند عقولهم السخيفة في انتفاء السمع، { إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱئْتُواْ بِآبَآئِنَآ } [الجاثية: 25]؛ أي: أحيوهم { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [الجاثية: 25] في الإحياء بعد الموت؛ فأجابهم الله تعالى بقوله: { قُلِ ٱللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } [الجاثية: 26]؛ يعني: بالأحياء يوم القيامة لا في الدنيا، وفيه إشارة إلى أهل الإشارة { قُلِ ٱللَّهُ يُحْيِيكُمْ } بالحياة الإنسانية، { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } عن صفاتكم الإنسانية الحيوانية، { ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ } بالحياة الربانية إلى يوم القيامة، وهي النشأة الأخرى { لاَ رَيْبَ فِيهِ } [الجاثية: 26] عند أرباب النظر، { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [الجاثية: 26]؛ لأنهم أهل النسيان والغفلة.
{ وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ } [الجاثية: 27]، سماوات القلوب يحي منها ما يشاء بنوره، ويميت ما شاء بظلمة النفوس، { وَٱلأَرْضِ } [الجاثية: 27] أرض النفوس، يحيي منها ما شاء بنوره، ويميت منها ما شاء بالحرص والشهوة، ويميت منها ما شاء بنور الإيمان والإخلاص، { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاَعةُ } [الجاثية: 27]، وهو يوم نشور القلوب عن قبور الصدور بقيام المحبة، { يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ ٱلْمُبْطِلُونَ } [الجاثية: 27]، الذين أبطلوا الاستعداد الفطري.