التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ
١٠
يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ
١١
وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ٱثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ ٱلزَّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ
١٢
-المائدة

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

{ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [المائدة: 10]، تداركهم الخذلان حتى { وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ } [المائدة: 10]، الذين كانوا يوم الميثاق في الصف الرابع فما فهموا أخطابنا ولا صوبوا جوابنا فاستوجبوا عتابنا واستحقوا عقابنا.
ثم ذكر أهل العناية بما أنعم عليهم في البداية فقال تعالى: { يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [المائدة: 11]، بما عاينوا { ٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } [المائدة: 11]، في بدء الخلقة حين أراد أن يخرجكم من ظلمة العدم إلى نور الوجود بأمر { كُن } { إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ } [المائدة: 11]؛ ليؤخروكم عن الخروج من العدم ويسبقوكم بالخروج إلى الوجود { فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } [المائدة: 11]، لتكونوا أنتم السابقون بالروح في الخروج عن العدم { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } [المائدة: 11]، في الرجوع إلى العدم لتتقوا بالله عما سوى الله، والله يعلم أن رجوعكم إلى العدم ليس لكم ولا إليكم كما لم يكن خروجكم بكم فإن خروجكم كان بجذبة أمر كن فلذلك رجوعكم لا يكون إلا بجذبة أمر
{ ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ } [الفجر: 28]، فكونوا واثقين بكرم الله وفضله شارعين في طلب مرضات الله جاهدين على وفق الأوامر والنواهي في الله؛ ليهديكم إلى جذبات عنايته { وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ } [المائدة: 11]، بهذه الكرامات المجتهدون لنيل هذه السعادات فإنه يبلغهم.
ثم أخبر عن ميثاق اليهود ونقضهم العهود بقوله تعالى: { وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ } [المائدة: 12]، والإشارة أن الله تعالى لما أخذ ميثاق بني إسرائيل أخذ ميثاق هذه الأمة يوم الميثاق ولكن أخذ ميثاق بني إسرائيل
{ { أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ } [هود: 2]، وأخذ ميثاق هذه الأمة أن { { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة: 54]، ولا يحبوا غيره، فلما كان ميثاق بني إسرائيل منهم لا من الله فنقضوا الميثاق وعبدوا العجل وقتلوا الأنبياء، ولما كان ميثاق هذه الأمة من الله ثم منهم بقوله { { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة: 54]، بذلوا في الله أرواحهم وما بذلوا بعهدوهم ومحبوبهم وما نقضوا ميثاقهم وعهودهم كما قال تعالى: { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } [الأحزاب: 23]، ومن كمال عنايته مع هذه الأمة أنه تعالى جعل في أمة موسى عليه السلام النقباء المختارين المرجوعين إليهم عند الضرورة اثني عشر لقوله تعالى: { وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ٱثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً } [المائدة: 12]، جعل في هذه الآمة من النجباء البدلاء وأعزة الأولياء أربعين رجلاً في كل حال وزمان.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"يكون في هذه الأمة أربعون على خلق إبراهيم عليه السلام وسبعة على خلق موسى عليه السلام وواحد على خلق محمد صلى الله عليه وسلم" فهم على مراتب رجائهم ومناصب مقاماتهم أمنة هذه الأمة كما قال صلى الله عليه وسلم: "بهم يرزقون وبهم يمطرون وبهم يدفع الله البلاء" قال أبو عثمان المغربي: البدلاء أربعون والأمناء سبعة والخلفاء من الأمة ثلاثة، والواحد القطب عارف بهم جميعاً ويشرف عليهم، ولا يعرفه واحد ولا يشرف عليه، وهو إمام الأولياء، والثلاثة الذين هم الخلفاء من الأئمة يعرفون السبعة، ويعرفون الأربعين ولا يعرفهم أولئك السبعة، والسبعة هم الأمناء يعرفون الأربعين الذين هم البدلاء ولا يعرفهم الأربعون، وهم يعرفون سائر الأولياء من الأمة ولا يعرفهم من الأولياء أحد، فإذا نقص من السبعة واحد جعل مكانه واحد من الأربعين، فإذا نقص من الثلاثة واحد جعل مكانه واحد من السبعة، وإذا مضى القطب الذي هو واحد في العدد وبه قوام أعداد الخلق جعل بدله واحد من الثلاثة إلى أن يأذن الله في قيام الساعة.
ثم قال تعالى لبني إسرائيل: { وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ ٱلزَّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } [المائدة: 12]، علق المعية معهم بهذا الشرط، وقال تعالى: لهذه الأمة عن غير تعليق بشرط
{ { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } [الحديد: 4]، والإشارة فيه أن من يقيم بهذه الشرائط إنما يقيم بها لأن الله تعالى وعد بني إسرائيل بتكفير سيئاتهم بعد القيام بهذه الشرائط.
وقال: { لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } [المائدة: 12]، ووعد هذه الأمة على القيام بأقل من هذه الشرائط بتبديل سيئاتهم حسنات وقال:
{ { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [الفرقان: 70]، وتحقيق قوله تعالى { أَقَمْتُمُ ٱلصَّلاَةَ } [المائدة: 12] فإقامة الصلاة في أداءها منها بأن تجعل الصلاة معراجك إلى الحق، وقدم العروج بدرجاتها إلى أن تشاهد الحق كما شاهدته يوم الميثاق، ودرجاتها أربع القيام والركوع والسجود والتشهد على دركات نزلت بها من عليين وجوار رب العالمين إلى أسفل سافلين القالب وهو العناصر الأربعة التي خلق منها قالب الإنسان فالمتولدات منها على أربعة أقسام ولكل قسم منها ظلمة خاصة تحجبك عن مشاهدة الحق، وهي الجمادية وخاصيتها التشهد، ثم النباتية وخاصيتها السجود، ثم الحيوانية وخاصيتها الركوع، ثم الإنسانية وخاصيتها القيام، فالقيام يشير إليك بالتخلص عن حجب طبع النباتية وأعظمها الحرص على الجذب للنشوء، والنماء وهي خاصية الماء، والتشهد يشير إليك بالتخلص عن حجب طبع الجمادية وأعظمها الجمود وهي خاصية التراب، ومن هذه الصفات الأربع تنشأ بقية الصفات البشرية فإذا تخلصت عن هذه الدركات والحجب عرجت بهذه المدارج الأربعة إلى جوار رب العالمين وقربه فقط قمت الصلاة مناجياً ربك مشاهداً له كما قال صلى الله عليه وسلم: "أعبد الله كأنك تراه" .
وفي قوله تعالى:{ وَآتَيْتُمُ ٱلزَّكَاةَ } [المائدة: 12]، إشارة إلى صرف ما زاد على روحانيتك بتعلق القلب بالوجود كله في سبيل الله { وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي } [المائدة: 12]؛ أي: استسلم بالكل لتصرفات النبوة والرسالة { وَأَقْرَضْتُمُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } [المائدة: 12]، وهو أن يأخذ منكم وجوداً مجازياً فانياً ويعطيكم وجوداً حقيقياً باقياً كما يقول: { لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } [المائدة: 12]، أي: لأسترن بالوجود الحقيقي عنكم سيئات الوجود المجازي { وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ } [المائدة: 12]، الوصلة { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } [المائدة: 12]، أنهار الحكمة { فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ } [المائدة: 12]، يعني: بعد هذه المواعظ الحسنة ولم يعمل بها { مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ } [المائدة: 12]، يعني: بضلالته اليوم من نتائج أخطاء النور عند رشاشه على الأرواح في بدء الخلقة كما قال صلى الله عليه وسلم: "فمن أخطأه ذلك النور فقد ضل" .