التفاسير

< >
عرض

فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱصْفَحْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ
١٣
وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ
١٤
يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ
١٥
-المائدة

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

قال تعالى شكاية لأفعالهم من سوء خصالهم: { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ } [المائدة: 13]، يعني: بعد هذه المواعيد نقضوا ميثاقهم الذي أخذناه على التوحيد أبعدناهم وطردناهم عن جوارنا { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ } [المائدة: 13]، بالنسيان والغفلة وحب الدنيا ومتابعة الهوى { قَاسِيَةً } [المائدة: 13]، لا تؤثر العظة والنصح، ومن قوتها { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } [المائدة: 13]، يتصرفون في كلام الحق ويغيرون أحكام التوراة { وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } [المائدة: 13]، أي: نسوا نصيبهم من تذكر ما ذكروا به أي: ذكرهم الأنبياء - عليهم السلام - من يوم الميثاق ومخاطبة الحق إياهم تشويقاً لهم إلى تلك الأحوال { وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ } [المائدة: 13]؛ لأن جعلنا جزاء عصيانهم الخذلان للزيادة في العصيان { إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ } [المائدة: 13]، وهم الذين أصابهم رشاش النور في بدء الخلقة { فَٱعْفُ عَنْهُمْ } [المائدة: 13]؛ يعني: عن هذا القليل أن صدر منهم بعض معاملات أهل الكفر والطغيان موافقة لآبائهم بالسوء والنسيان لا مخالفة لربهم بالعمد والعدوان { وَٱصْفَحْ } [المائدة: 13]، بالحلم والكرم عما جرى عليهم قبل التوبة والندم؛ إذ حسن إسلامهم وحصل بالإيمان مراحهم { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } [المائدة: 13]، الذين يحسنون طلب الحق ويتجاوزون عن جرائم الخلق.
ثم أخبر عن ميثاق النصارى بقوله تعالى: { وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ } [المائدة: 14]، والإشارة أن الله تعالى أخذ الميثاق من اليهود والنصارى على التوحيد كما أخذ هذه الأمة يوم الميثاق ولكنه لما وكل الفريقين إلى أنفسهم نسوا ما ذكروا به ابتلوا بالنسيان والخذلان؛ فأخبر عن نسيان اليهود بقوله تعالى: { فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } [المائدة: 14]، وعن نسيان النصارى بقوله تعالى: { وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } [المائدة: 14]، فما بقي للفريقين حظ من ذلك الميثاق.
{ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [المائدة: 14]، تحقيقه إذ لم يبق لهم حظ من ذلك الميثاق بإبطال الاستعداد الفطري بالكمال الإنساني صاروا أولئك كالأنعام بل هم أضل أي: كالسباع يتحاربون ويتحارشون ويتهارشون بالعداوة والبغضاء إلى يوم القيامة فإن أرباب الغفلة لا ألفة بينهم، وإن أصحاب الوفاق لا وحشة بينهم، وأما هذه الأمة لما أبدت بالتأييد الإلهي إذ ذكروا به وقيل لنبيهم:
{ وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الذاريات: 55]، وقال تعالى خطابهم إذ ينسوا ولم ينقضوا ميثاقهم: { { فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ } [البقرة: 152]، على أن ذكره آبائهم كان قبل وجودهم وذكرهم إياه حين ذكرهم بالمحبة وقال: { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة: 54].
ثم أخبر عن حقيقة الحظ الذي نسوه أهل الكتاب، وما نسته هذه الأمة بقوله تعالى: { يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً } [المائدة: 15]، والإشارة أن الله تعالى بعث النبي صلى الله عليه وسلم نوراً يبين حقيقة حظ الإنسان من الله تعالى مما خفي عليهم وهم مستعدون فحاصل الخلقة الاحتظاظ به دون سائر المخلوقات.
وقد حظي هنا أهل الكتاب بالخطاب بقوله تعالى: { يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } [المائدة: 15]؛ لأنهم أخفوا ما بين الله لهم في الكتاب المنزل على أنبيائهم ثم عمم الخطاب وقال تعالى: { قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ } [المائدة: 15]، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم مبين معه كتاب مبين حظ العباد من الله ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى سمى نفسه نوراً بقوله تعالى:
{ { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [النور: 35]؛ لأنهما كانتا مخفيتين في ظلمة العدم فالله تعالى أظهرهما بالإيجاد وسمى الرسول نوراً؛ لأن أول شيء أظهره الحق بنور قدرته من ظلمة العدم كان نور محمد صلى الله عليه وسلم كما قاله عليه صلى الله عليه وسلم: "أول ما خلق الله نوري ثم خلق العالم بما فيه من نوره بعضه من بعض فلما ظهرت الموجودات من وجود نوره سماه نوراً وكل ما كان أقرب إلى الاختراع كان أولى باسم النور كما أن عالم الأرواح أقرب إلى الاختراع من عالم الأجساد" فلذلك يسمى عالم الأرواح والعلويات نورانيات بالنسبة إلى السفليات فأقرب الموجودات إلى الاختراع لما كان نور النبي صلى الله عليه وسلم كان أولى باسم النور ولهذا كان يقول "أنا من الله والمؤمنون مني" ، قال تعالى: { قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } [المائدة: 15].