التفاسير

< >
عرض

لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَآلُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٧
وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ
١٨
يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٩
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن ٱلْعَٱلَمِينَ
٢٠
-المائدة

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن حظ اليهود والنصارى من الدنيا إذا نسوا حظهم من المولى بقوله تعالى: { لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَآلُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ } [المائدة: 17]، إلى قوله: { وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } [المائدة: 18]، والإشارة فيهما أن الله تعالى أظهر ظلومية الإنسان وجهوليته عند الخذلان وعدم العناية حتى كفر بقول: { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ } ولم يتفكر أن من اشتمل عليه أرحام الصلوات متى يفارقه نقص الخلقة وضعف البشرية ومن لاحت عليه شواهد التغير أنى يليق به نعت الألوهية فقال تعالى: { قُلْ } [المائدة: 17]، في جواب هؤلاء المغرورين الممكورين { فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } [المائدة: 17]، يعني: أن الإله هو الذي يملك التصرف في الأشياء كلها ولا يملك أحد على التصرف فيه بشيء ما، فمن يملك من الله شيئاً بالدفع والمنع { إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } [المائدة: 17]، قهراً منه بشؤم قولكم: إن الله هو المسيح ابن مريم: { وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } [المائدة: 17]، يعني: يستحق الألوهية من له ملك السماوات والأرض وملك التصرف فيهما وتصرف لأحد فيه فيمنعه عن التصرف فيهما { يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } [المائدة: 17]، لما يشاء متى يشاء كيف يشاء: { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [المائدة: 17]، يعني: الإله من يكون بهذه الصفة.
{ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ } [المائدة: 18]، من غاية خذلانهم وجهلهم وطغيانهم { نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ ٱللَّهِ } [المائدة: 18]، أي: رسلنا أبناء الله يدل عليه وقله تعالى:
{ { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ وَقَالَتْ ٱلنَّصَارَى ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ } [التوبة: 30].
{ وَأَحِبَّٰؤُهُ } [المائدة: 18]، أي: نحن أولياؤه يدل عليه قوله تعالى:
{ { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ هَادُوۤاْ إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ } [الجمعة: 6]، ثم ألزمهم الحجة وقال تعالى: { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم } [المائدة: 18]، إن كنتم أحباء الله والمعنى من تعذيبهم قولهم: { نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ ٱللَّهِ } [المائدة: 18] فقد عذبهم بهذا القول عاجلاً لاستكمال تعذيبهم آجلاً بذنوب تقدمت منهم من تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وتغيير نعته وتحريف كلام الله تعالى { بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ } [المائدة: 18]؛ يعني: من عوام الخلق لا من الذين اختصهم بعد أن خلقهم في ظلمة الخلقة بإفاضة رشاش النور عليهم وإصابته، فإنهم الأولياء والأحباء وإن الله لا يعذبهم بذنوب تصدر منهم عند الابتلاء بل يتوب عليهم ويبدل سيئاتهم حسنات كما كان حال آدم عليه السلام كان منه ما كان كقوله تعالى: { { وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ } [طه: 121]، وكان من الله ما قال: { { ثُمَّ ٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ } [طه: 122]، ثم أثبت الملك والقدرة والمشيئة والاختيار والإرادة كله لنفسه جل جلاله { يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } [المائدة: 18]، من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بإصابة رشاش النور في البداية وبالإيمان والعمل الصالح في الدنيا، وبالمغفرة ودخول الجنة وسعادة الرؤية في العقبى { وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } [المائدة: 18]، من أهل الكتاب بإخطاء النور في بدء الخلقة وبالكفر والشرك في الدنيا وبالقطيعة والحجاب ودخول النار في العقبى { وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } [المائدة: 18]، يتصرف في حكمه كيف يشاء فيجعل أقواماً مظهر صفات لطفه وجماله، كما فعل بأمة محمد صلى الله عليه وسلم وأقواماً مظهر صفات قهره وجلاله كما فعل بأهل الكتاب والمشركين منهم وسائر الكفار، { وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } [المائدة: 18]، للفريقين { { فَرِيقٌ فِي ٱلْجَنَّةِ } [الشورى: 7]، وهي دار لطفه وجماله { وَفَرِيقٌ فِي ٱلسَّعِيرِ } [الشورى: 7]، هي دار قهره وجلاله.
ثم أخبر عن تأكيد الحجة وإظهار الحجة بقوله تعالى: { يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا } [المائدة: 19]، والإشارة فيها أن الله تعالى خاطب اليهود والنصارى وقال: { يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ } [المائدة: 19] يشير إلى أنكم لستم أهل الله الذين يتدارسون الكتاب لله؛ بل أنتم من أهل الكتاب الذين يطلبون من دراسة الكتاب والعلوم الشهرة طلباً للرئاسة والوجاهة وقبول الخلق والمنافع الدنيوية.
{ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا } [المائدة: 19] فيه نكتة وهي أنه تعالى أضاف الرسول إلى نفسه وقال: { رَسُولُنَا } [المائدة: 19] وما أضاف إليهم؛ لأن فائدة رسالته لم تكن راجعة إليهم، ولما خاطب هذه الأمة أخبرهم عن مجيء الرسول إضافة إلى نفسه وإنما جعله من أنفسهم فقال تعالى:
{ { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [التوبة: 128]؛ لأن فائدة رسالته راجعة إلى أنفسهم.
ثم قال تعالى: { يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مِّنَ ٱلرُّسُلِ } [المائدة: 19]؛ يعني: يبين لكم أن تكونوا أهل الله لأنكم حصلتم على فترة من الرسل وما بين لكم من بيان رسول ألا تقنعوا من الدين باسم، ولا من الكتاب برسم، ومن الدراسة بذكر فينبئكم رسولنا برسالتنا ويبشركم بالوصول إلينا، وينذركم من القطيعة عنا { أَن تَقُولُواْ } [المائدة: 19] يوم القيامة في مقام الحسرة والندامة، { مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } [المائدة: 19]، بشركم بنا ونذير ينذركم عنا ويدعوكم إلينا ويكون لكم سراجاً منيراً تهتدون به إلينا كقوله تعالى:
{ { إِنَّآ أَرْسَلْنَٰكَ شَٰهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } [الأحزاب: 45]، وليكون حجة الله عليكم ولا يكون لكم حجة على الله، { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [المائدة: 19]، مما يدعوكم إليه الرسول ويبشركم به وينذركم عنه، { قَدِيرٌ } [المائدة: 19]، قادر على أن يعطيكم ما وعدكم رسوله؛ لأن الله لا يخلف الميعاد.
ثم أخبر عن فضله وكرمه وما أتاكم من نعمه بقوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } [المائدة: 20]، إلى قوله:
{ قَاعِدُونَ } [المائدة: 24]، والإشارة فيها أن الله تعالى أظهر الفرق بين هذه الأمة وبين بني إسرائيل على لسان نبيهم؛ إذ قال موسى لقومه: يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم وتولى أمر هذه الأمة بنفسه تعالى وقال: { فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ } [البقرة: 152]، فشتان بين من أمره سبحانه بذكره وبين من يذكر نعمه، ثم عدد ما أنعم به عليهم، فقال تعالى: { إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن ٱلْعَٱلَمِينَ } [المائدة: 20]، من الآيات والمعجزات والنعم الظاهرة والبراهين الباهرة، فلما لم يكونوا أهلاً لهذه الكرامات ومستحقاً لهذه السعادات ابتلاهم بدخول الأرض المقدسة.