التفاسير

< >
عرض

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ ذٰلِكُمْ فِسْقٌ ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٣
يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ ٱلْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
٤
-المائدة

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن الحرام علي الخواص والعوام بقوله تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ } [المائدة: 3]، والإشارة أن ظاهرها كما كان خطاباً لأهل الدنيا والآخرة فباطنها عتاب لأهل الله وخاصته حرمت عليكم يا أهل الحق الميتة فهي الدنيا بأسرها، { وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ } [المائدة: 3]، يعني: حلالها وحرامها قليلها وكثيرها وذلك لأن من الدم ما هو حلال والخنزير كله حرام، والدم بالنسبة إلى اللحم قليل واللحم بالنسبة إلى الدم كثير.
{ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ } [المائدة: 3]، يعني: كل طاعة وعبادة وقراءة ودراسة ورواية يظهرون به لغير الله، { وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ } [المائدة: 3]، يعني: الذين يخنقون نفوسهم بالمجاهدات ويقذونها بأنواع الرياضيات نبهها عن المرادات وزجرها عن المخالفات للرياء والسمعة، { وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ } [المائدة: 3]، الذين يتردون بنفوسهم من أعلى عليين إلى أسفل السافلين بالتناطح مع الأقران، والمماراة مع الإخوان، والتفاخر بالعلم والزهد بين الإخوان.
وفي قوله: { وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } [المائدة: 3]، إشارة إلى أن فيما يحتاجون إليه من القوة الضرورية كونوا محترزين من أكلة السباع وهم الظلمة الذين يتهارشون في جيفة الدنيا تهارش الكلاب، ويتجاذبون بمخالب الأطماع الفاسدة، { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } بالكسب الحلال ووجه صالح بقدر ضرورة الحال.
{ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ } [المائدة: 3]، فيه يشير إلى ما تذبح عليه النفوس بأنواع الحد والاجتهاد من المطالب الدنيوية والأخروية، { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ ذٰلِكُمْ فِسْقٌ } [المائدة: 3]، يعني: أن تكونوا مترددين نقالين في طلب المرام متقين بحصول المقصود، متهاونين في بذل الوجود فإذا انتهيتم عن هذه الدواعي وأخلصتم لله في الله وخرجتم عن سجن الأنانية وسجن الإنسانية بجذبات الربانية؛ فقد عاد ليلكم نهاراً وظلمتكم أنواراً.
{ ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [المائدة: 3]، من النفس وصفاتها والدنيا وشهواتها، { مِن دِينِكُمْ } [المائدة: 3]، وتيقنوا أن ما بقي لكم الرجوع إلى ملتهم والصلاة إلى قبلتهم، { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ } [المائدة: 3]، فإنكم خلصتم من شبكة مكائدهم ونجوتم من عقد مصائدهم، { وَٱخْشَوْنِ } [المائدة: 3]، أي: فإن كيدي متين وصيدي مبين وبطشي شديد وحسبي مديد، ثم أخبر عن إكمال الدين وإجلال أهل اليقين بقوله تعالى: { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [المائدة: 3]، والإشارة أن اليوم إشارة إلى الأول، { أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } أي: جعلت الكمالية الآن بإظهار رؤيتكم على الأديان كلها في الظاهر وأنا في الحقيقة، وسيجيء شرحه إن شاء الله.
{ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً } [المائدة: 3]، تستكملون به إلى الأبد بحيث من يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه، وذلك لأن حقيقة الدين الذي هو سلوك سبيل الله عز وجل بعدم الخروج عن الوجود المجازي للوصول إلى الوجود الحقيقي، وأن الإنسان مخصوص به من سائر الموجودات، ولهذا الآية اختصاص بالكمالية في السلوك من سائر الأمم خالدين في عهد آدم عليه السلام كان من التكامل بسلوك الأنبياء عليه سبيل الحق إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكل نبي سلك في الدين مسلكاً أنزله بقربة من مقامات القرب؛ لكن بإخراج أحد منهم بالكلية عن الوجود المجازي للوصول إلى الوجود الحقيقي بالكمال فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم:
{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } [الأنعام: 90]، فسلك النبي صلى الله عليه وسلم جميع المسالك التي سلكها الأنبياء عليهم السلام أجمعين فلم يتحقق له الخروج أيضاً بقدم السلوك عن الوجود المجازي بالكلي حتى تداركته العناية الأزلية لاختصاصه بالمحبوب، وبجذبات الربوبية أخرجه من الوجود المجازي ليلة أسرى بعبده وأعطاه ما تميز به عن الأنبياء كلهم وبلغ في القرب إلى الكمالية في الدنو وهو سر أو أدنى فاستسعد بسعادة الوصول إلى الوجود الحقيقي في سر فأوحى إلى عبده ما أوحى.
وفي الحقيقة قيل له في تلك الحالة { أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } [المائدة: 3]، ولكن في حجة الوداع يوم عرفة عند وقوفه بعرفات أظهر على الأمة عند إظهاره على الأديان كلها وظهور كمالية الدين نزول الفرائض والأحكام بالتمام فقال: { أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً } [المائدة: 3].
ويدل على هذا التأويل ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مثلي ومثل الأنبياء من قبل كمثل رجل ابتنى بيوتاً فأحسنها وأجملها وأكملها إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها، فجعل الناس يطوفون حولها ويعجبهم البنيان فيقولون: ألا وضعت هذه اللبنة، فتم بناؤها، فقال محمد: صلى الله عليه وسلم فأنا اللبنة" ، متفق على صحته.
فصح ما قررناه من مقامات الأنبياء - عليهم السلام - تكامل الدين بهم وكماله بالنبي صلى الله عليه وسلم بخروجه عن الوجود المجازي بالكلية وأن الأنبياء لم يخرجوا عنه بالكلية.
ويدل على هذا المعنى أيضاً أن الأنبياء كلهم يوم القيامة يقولون: نفسي نفسي لبقية الوجود، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:
"أمتي أمتي" ؛ لفناء الوجود، فافهم جيداً.
ومن كرامة هذه الأمة لشركهم في كمالية الدين مع النبي صلى الله عليه وسلم فخوطبوا بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: { أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [المائدة: 3]، ليعلم أن الكمالية فيه مشتركة بينهم لا يتهاونون في طلبها، وقال: { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } [المائدة: 3]، وهي أسباب تحصيل الكمال ومعظمها بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: { وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً } [المائدة: 3]، وهو استسلام الوجود المجازي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى خلفائه بعده ليطرح عليه إكسير المتابعة فيبذل الوجود المجازي المجيء بالوجود الحقيقي المحبوبي، كما قال تعالى:
{ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [آل عمران: 31]، يعني: ويغفر الوجود الحقيقي ذنوب الوجود المجازي، فافهم جيداً وانتبه.
ثم قال تعالى: { فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ } [المائدة: 3]، فمن ابتلي بالالتفات إلى شيء من الدنيا والآخرة مضطراً إليه فهو في غاية الابتلاء وكثير التربية، { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ } [المائدة: 3]، غير قابل إليه بالإعراض عن الحق؛ ولكن فترة تقع للصادقين أو وقفة تكون للسالكين ثم يتداركون بصدق الالتجاء إلى الحق وأرواح المشايخ والاستغاثة بهم وطلب الاستغفار عن ولاية النبوة وإعانته، { فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ } [المائدة: 3]، لما ابتلاهم به، { رَّحِيمٌ } [المائدة: 3]، بهم بأن يهديهم إلى الصراط المستقيم بإفاضة الدين القويم.
ثم أخبر عما أحل من الطيبات ومن المحصنات المؤمنات بقوله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ } [المائدة: 4]، والإشارة أن أرباب الطلب وأصحاب السلوك يسألونك ماذا أحل لهم؛ إذ حرم عليهم الدنيا والآخرة كما قال صلى الله عليه وسلم:
"الدنيا حرام على أهل الآخرة، والآخرة حرام على أهل الدنيا" ، وهما حرمان على أهل الآخرة، { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ } [المائدة: 4]، وهي ما لا يقطع عليكم طريق الوصول إلى الله تعالى، فإن الله طيب لا يقبل إلا الطيب فكل مأكول ومشروب وملبوس ومقول ومفعول ومعمول طلبتموه بحظ من الحظوظ فقد لونتموه بلون دواعي الوجود فهو من الخبيثات لا يصلح إلا للخبيثين وما طلبتموه بالحق للقيام بأداء الحقوق مطيباً بنفحات الشهود فهو من الطيب لا يصلح إلا للطيبين.
{ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ ٱلْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُ } [المائدة: 4]، يشير إلى النفوس المعلمة بعلوم الشريعة المؤدبة بآداب الطريق المنورة بأنوار علوم الحقيقة التي تكشف لأسرار الصديقين بتجلي صفات العالمية وهي العلوم اللدنية التي يعلمها الله أخص الخواص من عباده كما قال تعالى:
{ وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } [الكهف: 65].
{ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } [المائدة: 4]، يشير إلى تناول ما اصطاد نفوس المطمئنة من عالمي الغيب والشهادة بالأمر لا بالطبع فما أمسكن بالقيام للحقوق لا عليهن للقيام بالحفوظ، { وَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } [المائدة: 4]، يعني: واذكروا عند تناول كل ما ورد عليكم من الأمور الدنيوية والأخروية اسم الله عليه ولا تتصرفوا فيه إلا لله بالله في الله، { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } [المائدة: 4]، أي: اتقوا به عما سواه: { إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [المائدة: 4]، يحاسب العباد على أعمالهم قبل أن يفرغوا منها ويجازيهم في المال بالإحسان إحسان القربة ورفعة الدرجة، وجذبة العناية وبالإساءة إساءة العبد والطرد إلى الشغل والخذلان.