التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاۤئِمٍ ذٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
٥٤
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ
٥٥
وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْغَالِبُونَ
٥٦
يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَٱلْكُفَّارَ أَوْلِيَآءَ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
٥٧
-المائدة

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن أهل المحبة في الدنيا وأهل المحنة في العقبى بقوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } [المائدة: 54]، إشارة أن الدين الحقيقي هو طلب الحق فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [المائدة: 54]، بطلب الحق بعد أن كانوا في ضلالة طلب غير الحق من يرتد منكم عن دينكم، وهو طلب الحق حقيقته طالباً غير الله من الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ } [آل عمران: 152]، حتى قرئ هذه الآية عند النبي -رحمه الله - فشهق شهقة، وقال: ثمناً حد، فقال: ومنكم من يريد الله { فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة: 54]، فخص هذه المرتبة بقوم دون قوم، لا ريب أن هذا القوم هم أرباب السلوك من المشايخ الذي جذبتهم العناية بجذبات المحبة الإلهية عن أوطار أوصاف الخلقة إلى مرادفات جلال الصمدية نفاهم عنهم بسطوات يحبهم، ثم إبقائهم به بهبوب نفحات يحبونه، فإن العبدية إفناء الناسوتية في اللاهوتية، وإن محبة الله العبد بقاء اللاهوتية في إفناء الناسوتية، فالله تعالى يحب العبد بصفة ذاته أزلاً، وهي الإرادة القديمة المخصوصة بالعناية، والعبد يحب الله تعالى بذات تلك الصفة، فافهم جيداً فتكون من إمارة تلك المحبة الأزلية الأبدية لهم أن تكون { أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ } [المائدة: 54]، لفناء الناسوتية وارتفاع الأنانية { أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [المائدة: 54]، ببقاء اللاهوتية وإثبات الوحدانية { يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [المائدة: 54]، في طلب الحق في البداية ويبذل الوجود { وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاۤئِمٍ } [المائدة: 54]، عند غلبات الوجود في الوسط لدوام الشهود { ذٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } [المائدة: 54]؛ يعني: صدق الطلب في البداية، وغلبات الوجد في الوسط، والاختصاص بالمحبة في النهاية لنيل المقصود { وَٱللَّهُ وَاسِعٌ } [المائدة: 54]، كرم أن يتفضل بذلك على كل أحد لكنه { عَلِيمٌ } [المائدة: 54]، بمن يستحق لهذه الفضيلة ويستعد للتوسل بهذه الوسيلة.
ثم أخبر عمن مشمول العناية منهم إنه المنعوت بالولاية بقوله تعالى: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [المائدة: 55]، إشارة أن الله تعالى أعز المؤمنين بعز موالاته وموالات رسوله وموالات المؤمنين فقال: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [المائدة: 55]، فموالات الله في معادات ما سوى الله كما كان حال الخليل عليه السلام قال:
{ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } [الشعراء: 77]، ومولاة الرسول في معادات النفس ومخالفة الهوى كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين" ، ومولاة المؤمنين في مؤاخاتهم في الدين كقوله تعالى: { { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [الحجرات: 10]، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" ، وقيل: من عادى نفسه لم يخرج بالمخاصمة عنها مع الخلق وبالمعارضة فيها مع الحق، ثم أخبر عن أهل الموالاة من المؤمنين بقوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ } [المائدة: 55]؛ أي: بديمومتها محافظاً حدودها في الظاهر مراقباً حقوقها في الباطن بمراعاة السير مع الله أن لا يخطر بباله غير الله { وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ } [المائدة: 55]، أي: يبذلون ما زكى من وجودهم في طلب الحق وهو الفناء في الله { وَهُمْ رَاكِعُونَ } [المائدة: 55]، راجعون إلى الله بالانحطاط من قيام البشرية إلى القيام بالقيومية { وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [المائدة: 56] فهم من { فَإِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ } [المائدة: 56]، أهل الله وخاصيته { هُمُ ٱلْغَالِبُونَ } [المائدة: 56]، أهوائهم وأنفسهم وعلى الدنيا والشياطين القائمون مع الله على نشر الاستقامة.
ثم أخبر عن صفة الأعداء، وأنهم لا يصلحون لهؤلاء بقوله تعالى: { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ } [المائدة: 57]، الإشارة أن لا تحجبوا إلى الملاينة مع أعداء الدين يا أهل الإيمان خصوصاً مع الذين اتخذوا { دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } [المائدة: 57]، من أهل الأديان والملل { وَٱلْكُفَّارَ } [المائدة: 57]، ولا تتخذوهم { أَوْلِيَآءَ } [المائدة: 57]، فإنهم أعداء الله وأعداءكم، وفيه أيضاً إشارة إلى أهل التحقيق؛ الذين هم أهل المحبة المجذوبون إلى سراء قلق الجلال بجذبات الوصال، أن لا تتلوا أهل الغفلة والسلوة الذين اتخذوا دينكم ومنهيكم في المحبة والطلب هزوا ولعباً للجهل بأموالكم والغفلة عن أمالكم من الذين أوتوا الكتاب؛ أي: العلوم الظاهرة من الثقليات والكفار؛ يعني: الفلاسفة الذين يمسكوا بالعلوم من العقليات، فإنهم بمعزل عن العلوم من النيا والكشفيات فلا تتخذوهم أولياء فإن بعضهم أوليا بعض والضدية بينكم وبينهم قائمة، فإن الناس أعداء ما جهلوا من لم يتق لا يدري فلم يدروا أن لا يدروا فهم يحسبون أنهم يدرون، فهذا هو الجهل المركب، فافهم جيداً { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } [المائدة: 57]، واخشوه ولا تخشوا غيره { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [المائدة: 57]، بأن لا وجود إلا الله ولا يوجد سوى الله.