التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ
١٦
إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ
١٧
مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ
١٨
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ
١٩
وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْوَعِيدِ
٢٠
وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ
٢١
لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ
٢٢
وَقَالَ قَرِينُهُ هَـٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ
٢٣

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ } [ق: 16] قبل خلقه، مثل بعد خلقه { مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } [ق: 16] من شهوات بطلب استيفائها، وتصنع مع الخلق، أو سوء خلق، أو اعتقاد فاسد، وغير ذلك من أوصاف النفس، يوسوس بذلك ليشوش عليه قلبه ووقته، وكيف لا يعلم وكل ذلك مما خلقناه فيه وقدرنا له فعله؟! { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } [ق: 16]، أقرب أجزاء نفسه إلى نفسه، يشير به إلى أنه تعالى أقرب إلى العبد من نفس العبد إلى العبد، فكما أنه كل وقت يطلب نفسه يجدها؛ لأنها قريبة منه، فكذلك كل وقت طلب الله وجده؛ لأنه قريب منه، كما قال: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } [البقرة: 186]، وقال: "ألا من طلبني وجدني" .
وبقوله: { إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ } [ق: 17]، يشير إلى أن من لم يعرف قدر قربي إليه، ويكون بعيداً مني بخصاله الذميمة وأفعاله الردية، ولم يرضَ بأني أكون رقيبه.
وأوكل عليه رقيبين { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق: 18]، يكتب بقلم حركاته ومداد لدنيته على صحيفة قلبه، فإن كانت حركاته شرعية ملكية ونيته خالصة ربانية؛ فتجيء كتابته نورانية روحانية، وإن كانت حركاته طبيعية حيوانية ونيته هوائية شهوانية؛ فتجيء كتابته ظلمانية نفسانية، فمن هاهنا تبيض وجوه وتسود وجوه.
وفيه أيضاً إشارة إلى كمال عنايته في حق عباده؛ إذ جعل على كل واحد رقيبين من الملائكة المقربين؛ ليحفظوه بالليل والنهار إذا كان ماشياً فواحد بين يديه وواحد خلفه، ويقال: هما اثنان بالليل لكل أحد واثنان بالنهار، ويقال: بل الذي يكتب الخيرات كل يوم آخر، والذي يكتب الشر والذلة كل يوم هو الذي كان بالأمس؛ لتكثر شهود الطاعة غداً ويقل شهود المعصية، وبقاء الذي يكتب المعصية كل يوم اثنان آخران وكل ليلة اثنان آخران؛ لئلا يعلم في مساوئك إلا القليل منهم، فيكون علم المعاصي متفرقاً فيهم.
{ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } [ق: 19]، إذا أشرقت النفس على الخروج من الدنيا، فأحوالهم تختلف؛ فمنهم: من يزداد في ذلك الوقت خوفه ولا تتبين إلا عند ذهاب الروح حاله، ومنهم: من يكاشف قبل خروجه، فيسكن روعه ويحفظ عليه قلبه، ويتم له حضوره وتميزه؛ فيسلم الروح على مهل من غير استكراه وعبوس، ومنهم: وفي معناه يقول بعضهم:

أنا إن مت فالهوى حشو قلبي وبداء الهوى يموت الكرام

ثم قال: { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْوَعِيدِ } [ق: 20]، لكل نفس أوعدها الله بحسب سيرها من أول الفطرة إلى يوم البعث، { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } [ق: 21]؛ أي: الذي ساقها من مبدأ الوجود أما سوقاً باللطف وأما سوقاً بالبيت قوله: "هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي ولا أبالي" شهيد من شواهد الحق؛ ليجري عليه من الأحكام الأزلية.
وبقوله: { لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ق: 22].
يشير إلى أن الإنسان وإن خلق من عالمي المغيب والشهادة، فالغالب عليه في البداية الشهادة وهي العالم الحسي، فيرى بالحواس الظاهرة عالم المحسوس مع اختلاف أجناسه، وهو بمعزل عن إدراك عالم الغيب، فمن الناس: من يكشف الله غطاءه عن بصر بصيرته؛ فيجعل بصره حديداً، يبصر رشده ويحذر شره لهم المؤمنون من أهل السعادة.
ومنهم: من يكشف عن بصر بصيرته يوم القيامة، يوم
{ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَٰنُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ... } [الأنعام: 158] الآية، وهم الكفار من أهل الشقاوة { وَقَالَ قَرِينُهُ } [ق: 23] وهو سائقه، { هَـٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } [ق: 23]، معد لك في الأزل.