التفاسير

< >
عرض

آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ
١٦
كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ
١٧
وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
١٨
وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ
١٩
وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ
٢٠
وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ
٢١
وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ
٢٢
فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ
٢٣
-الذاريات

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

{ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ } [الذاريات: 16] اليوم بقلوب فارغة من الله من أصناف ألطافه، وغداً يأخذون ما يعطيهم ربهم في الجنة من فنون العطاء والرغد، { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ } [الذاريات: 16]؛ أي: قبل أن كانوا في الوجود وكانوا في العدم { مُحْسِنِينَ } [الذاريات: 16]، وإحسانهم أنهم كانوا محبين الله بالله، كما قال تعالى: { وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة: 54] وهم بعد في العدم.
ولما حصلوا في الوجود { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } [الذاريات: 17]؛ أي: كانوا قليلاً، وكانوا لا ينامون بالليل كقوله:
{ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } [سبأ: 13]، وكقوله صلى الله عليه وسلم: "نوم العالم عبادة" ، فمن يكون في العبادة نائماً؟
{ وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [الذاريات: 18]؛ أي: يستغفرون عن رؤية عبادات يعلمونها في سهرهم إلى الأسحار بمنزلة العاصين، يستغفرون استصغاراً لقدرهم واستحقاراً لفعلهم، والليل إما للأحباب في أنس المناجاة وإما للعصاة في طلب النجاة، والسهر لهم في لياليهم دائم؛ لفرط أسف أو لشدة لهف، وإما للاشتياق أو للفراق، كما قال:

وأكم ليلة فيك لا صباح لها أفنيتها قابضاً على كبدي
قد عضت العين بالدموع وقد وضعت خدي على بنان يدي

وإما لكمال أنس وطيب روح، كما قالوا:

سقى الله عيشاً نضيراً مضى زمان الهوى في الصبا والمجون
لياليه تحكي انسداد اللحاظ للعين عند ارتداد الجنون

وبقوله: { وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } [الذاريات: 19]، يشير إلى ما آتاهم الله من فضله من المقامات والكمالات، أنه فيها حق للطالبين الصادقين إذا قصدوهم من أطراف العالم في طلبها إذ عرفوا قدرها، والمحروم من لم يعرف قدر تلك المقامات والكمالات، فاقصدوهم في طلبها فلهم في ذمة هؤلاء الكرام حق التفقد والنصح، "فإن الدين النصيحة" ؛ فإنهم بمنزلة الطبيب، والمحروم بمنزلة المريض، فعلى الطبيب أن يأتي إلى المريض، ويرى نبضه ويعرف علته ويعرفه خطرها، ويأمره بالاحتماء عن كل ما يضره، ويعالجه بأدوية تنفعه إلى أن يزول مرضه وتظهر صحته.
{ وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } [الذاريات: 20]، منها أنها تحمل كل شيء، فكذلك الموقن العارف يحمل كل حمل من كل أحد، ومن استثقل حملاً وتبرم برؤية أحد؛ ساقه الله إليه فلغيبته عن الحقيقة ومطالعته الخلق بعين التفرقة، وأهل الحقائق لا يتصفون بهذه الصفة، ومنها أنه يلقى عليها كل قذارة وقمامة فتنبت كل زهر ونور وورد، كذلك المعارف يتشرف ما يسقي من الجفاء، ولا يترشح إلا بكل خلق على شيمة زكية، ومنها أن ما كان منها سبخاً يترك ولا يعمر؛ لأنه لا يتحمل العمارة كذلك من الإيمان له بهذه الطريقة يهمل؛ فإن مقابلته بهذه القصة كإلقاء البذر في الأرض السبخة.
وبقوله: { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [الذاريات: 21]، يشير إلى أن نفس الإنسان مرآة جميع صفات الحق تعالى؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:
"من عرف نفسه فقد عرف ربه" ، فلا يعرف أحد نفسه إلا بعد كمالها، وكمالها في أن تصير مرآة تامة مصقولة قابلة لتجلي صفات الحق لها؛ فيعرف نفسه بالمرآتية ويعرف ربه بالتجلي فيها، كما قال تعالى: { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } [فصلت: 53].
وبقوله: { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [الذاريات: 22]، يشير إلى سماء الأرواح، كما ينزل ما هو سبب رزق الأبدان من سماء الصورة كذلك ينزل ما هو سبب رزق القلوب وحياتها من سماء الأرواح من الطوالع واللوامع والشواهد والتجليات الروحانية والتجليات الربانية، { وَمَا تُوعَدُونَ } [الذاريات: 22]،
"ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" .
{ فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ } [الذاريات: 23]؛ أي: فكما قولكم أن الله خالق السماء والأرض حق؛ كذلك القول فإنه الرازق حق ووعده حق لكم، { مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } [الذاريات: 23]؛ يعني: كما أنطقكم الله فينطقون بقدرته بلا شك حق من الله أن يرزقكم ما وعدكم، وإنما اختص التمثل بالنطق؛ لأنه مخصوص بالإنسان وهو أخص صفاته.