التفاسير

< >
عرض

وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ
٢٤
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ
٢٥
قَالُوۤاْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِيۤ أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ
٢٦
فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ ٱلسَّمُومِ
٢٧
إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْبَرُّ ٱلرَّحِيمُ
٢٨
فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ
٢٩
أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ
٣٠
قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُتَرَبِّصِينَ
٣١
-الطور

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

{ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ } [الطور: 24] من واردات الحق تعالى، { كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } [الطور: 24]، لا كدورة فيهم من نقوش الدارين، والقوم عن الدار وعمن في الدارين مختطفون باستيلاء ما يستغرقهم من تتابع الكاسات في بحر الحياة.
{ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ } [الطور: 25]؛ يعني: القلب والروح { عَلَىٰ بَعْضٍ } [الطور: 25]؛ يعني: على النفس { يَتَسَآءَلُونَ * قَالُوۤاْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ } [الطور: 25-26]؛ أي: قبل السير والسلوك { فِيۤ أَهْلِنَا } [الطور: 26]؛ أي: في عالم الإنسانية { مُشْفِقِينَ } [الطور: 26]، خائفين من سموم صفات البهيمية والسبعية والشيطانية والشهوات الدنياوية؛ فإنها مهب سموم قهر الحق تعالى، { فَمَنَّ ٱللَّهُ } [الطور: 27] تعالى { عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ ٱلسَّمُومِ } [الطور: 27] سموم قهره، ولولا فضله ما تخلصنا منه بجهدنا وسعينا، بل { إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ } [الطور: 28]، ونتضرع إليه بتوفيقه في طلب النجاة وتحصيل الدرجات، { إِنَّهُ هُوَ ٱلْبَرُّ } [الطور: 28] لمن يدعوه، { ٱلرَّحِيمُ } [الطور: 28] لمن ينيب إليه.
ثم أخبر عن التذكير لدفع التقصير بقوله تعالى: { فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ } [الطور: 29-30]، يشير إلى أن طبيعة الإنسان متنفرة في حقيقة الدين، مجبولة على حب الدنيا وزينتها وشهواتها، والجوهر الروحاني الذي جبل على فطرة الإسلام في الإنسان موزع بالقوة كالجوهر في المعدن، فلا نستخرج إلى الفعل إلا بجهد جهيد، وسعي تام على قانون الشريعة، ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم وإرشاده، وبعده بإرشاد ورثة علمه وهم العلماء الربانيون الراسخون في العلم من المشايخ المسلكين، وفي زمان كل واحد منهم.
والخلق مع دعوى إسلامهم ينكرون على سواهم في الأغلب، ويستعدون ترك الدنيا والعزلة والانقطاع عن الخلق، والتبتل إلى الله، وطلب الحق تعالى إلا من كتب الله في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه، وهو الصدق في الطلب وحسن الإرادة المنتجة في بذر،
{ { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة: 54]، و { { ذٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } [المائدة: 54]، وإلا من خصوصية طبيعة الإنسان أن يمرق من الدين، كما يمرق السهم من الرمية، وإن كانوا يصلُّون ويصومون، ويزعمون أنهم مسلمون ولكن بالتقليد لا بالتحقيق، اللهم إلا من شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه.
وفي قوله: { فَذَكِّرْ } إشارة أيضاً إلى أن التذكير على النبي والشيخ واجب في كل حال والعظة للخلق؛ ليحيي من حيي عن بينة وهلك من هلك عن بينة، ومن طبيعة الإنسان أن ينسب أهل التحقيق من الإنسان والمشايخ إلى الكهانة والجنون والسحر والشعر.
وبقوله: { قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُتَرَبِّصِينَ } [الطور: 31]، يشير إلى النصير في الأمور ودعوة الخلق، والتوكل على الله فيما يجري على عباده والتسليم لأحكامه في المقبولين والمردودين.
تفسير عين الحياة
{ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ } [الطور: 24]؛ أي: غلمان أخلاقهم الكريمة الشريفة، { كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } [الطور: 24] في اللطافة مصورة عن أن يصل إليه غبار عالم الحدوث، وكدورة دخان الهوى.
{ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } [الطور: 25] من هذا النعيم كيف يستحقها، { قَالُوۤاْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِيۤ أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ } [الطور: 26]؛ يعني: كنا نشفق على قوانا وجوارحنا المستعملة في دار الكسب، ونمنعها عن التورط في غمرة، والاشتغال باللهو واللعب، والاشتغال بنيران الشهوة والغضب، { فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ ٱلسَّمُومِ } [الطور: 27]، يعني منَّ الله علينا بالتوفيق في دار الكسب للإشفاق على الأهل والتوخي عن متاع الزور وادخار هذه النعمة في دار الجزاء، بأعمالنا الصالحة التي عملناها بتوفيقه، ووقانا أيضاً من عذاب السموم، الذي هو نتيجة ريح الهوى ونار الشهوة بمنِّة وتوفيقه، الذي أعطاناه لتسكين ريح الهوى وإخماد نار الشهوة في الدنيا.
{ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْبَرُّ ٱلرَّحِيمُ } [الطور: 28]؛ يعني: أنبأتنا اللطيفة المرسلة بأنه هو البر الرحيم، إننا بلطائفنا دعوناه بأسمائه الحسنى وعرفناه بصفاته المثلى، وعلمناه بأنه كان تاب علينا حين أوجدنا وأبدعنا أولاً، ثم رحيماً علينا بإرساله اللطائف المرسلة إلينا، وتنبيهها إيانا بأن فيها النيران وقتل الحيات والعقارب، وتعليمها لنا كيفية إخماد النيران وقتل الحيات والعقارب، وكيفية تبديل هذه الصفات الذميمة بالصفات الكريمة، التي هي الغلمان والولدان، التي نحن نتنعم بمشاهدتهم اليوم صورها؛ { فَذَكِّرْ } [الطور: 29]؛ يعني ذكري أيتها اللطيفة الخفية قواك وأمتك ما علمناك بالوارد، وبصرناك بكشف الغطاء ليشاهد ما في الغيب، ولا تخافي من أسن القوى المنكرة المنافقة المشركة بأنهم يقولون: إنك كاهن يلقي إليه الشيطان هذه المعاني، أو مجنون خلط عقله من كثرة المجاهدة، وضعف دماغه من خشونة الرياضة؛ { فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ } [الطور: 29]، والذي دعاني إلى كتب هذه الإشارات أو الرموز، وهداني إلى إبراز هذه الجواهر النفيسة من الكنوز هو أمره الجازم المطاع، ولست ممن يخاف لومة لائم، ولا ممن يبالي بأن يقال له: إنك كاهن أو مجنون.
وأقول حقاً وأعرف صدقاً بأن
{ فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَٰمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً } [الأنعام: 125]، { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَٰسِقِينَ * ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَٰقِهِ } [البقرة: 26-27].
{ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ } [الطور: 30]؛ يعني: تقول القوة المنكرة المنافقة: إنه شاعر مثل الشعراء الماضين، فعن قريب يموت ولا يبقى له تبعاً؛ فينبغي ألاَّ يلتفت إلى قوله، ولا نترك هوانا ومشهياتنا ودين آبائنا، وهو متابعة الهوى على وفق مراد النفس.
قولي أيتها النفس اللطيفة الخفية { قُلْ تَرَبَّصُواْ } [الطور: 31]؛ أي: انتظروا الموت، { فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُتَرَبِّصِينَ } [الطور: 31]؛ يعني: إني أيضاً منتظر، حتى يأتيكم الموت بغتة والأمر فجاءة، ويكشف عنكم الأغطية، يقولون:
{ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا... } [السجدة: 12] الآية، ويجيبكم القدر بقوله: { ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [المؤمنون: 108].