التفاسير

< >
عرض

وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ
٤٤
فَذَرْهُمْ حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ
٤٥
يَوْمَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ
٤٦
وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٤٧
وَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ
٤٨
وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ ٱلنُّجُومِ
٤٩
-الطور

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

{ وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ } [الطور: 44] من غباوتهم وسفههم إنه { سَحَابٌ مَّرْكُومٌ } [الطور: 44]؛ يعني: أنهم وإن رأوا كل آية لا يؤمنون، كما قال تعالى: { { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ ٱلسَّمَاءِ } [الحجر: 14]، حتى شاهدوا باليقين { لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا } [الحجر: 15]، وليس هذا عياناً ولا مشاهدة { فَذَرْهُمْ حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ } [الطور: 45]؛ أي: فأعرض عنهم حتى يلاقوا يومهم الذي يتجلى لهم الحق، فيصعقون عن أنانيتهم كما صعق موسى إذ تجلى ربه للجبل { يَوْمَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } [الطور: 46]؛ لأنه من صفات النفس، وقد ماتت النفس عن صفاتها بصعقة التجلي، { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } [الطور: 46]، بشيء من الأوصاف البشرية.
{ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } [الطور: 47] أنفسهم بإفساد الاستعداد الأصلي في قابلية الفيض الإلهي، { عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ } [الطور: 47]؛ أي: من صفات القهر دون صفات اللطف، { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [الطور: 47]، اللطف من القهر ولا القهر من اللطف.
ثم أخبر عن الصبر أنه دافع للقهر بقوله تعالى: { وَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } [الطور: 48]؛ أي: فاصبر لما حكم به لك في الأزل؛ فإنه لا يتغير حكمنا الأزلي إن صبرت وإن لم تصبر، ولكن إن صبرت على قضائه؛ فقد جزيت ثواب الصابرين بغير حساب.
وفيه إشارة أخرى فاصبر لحكم ربك، { فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } [الطور: 48] نعينك على الصبر لأحكامنا الأزلية، كما قال تعالى:
{ وَٱصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِٱللَّهِ } [النحل: 127]، { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ ٱلنُّجُومِ } [الطور: 48-49]، به يشير إلى مداومته على الذكر وملازمته بالليل والنهار.
تفسير عين الحياة.
{ وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ سَاقِطاً } [: الطور: 44]؛ أي: عذاباً من سماء الصدر، نازلاً عن القوى الروحية المنوطة في النفس والقالب، يقولون قبل أن يصل إليهم أنهم { يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ } [الطور: 44] بعضه ببعض؛ لتسقينا من مطر الرحمة.
{ فَذَرْهُمْ حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ } [الطور: 45]؛ يعني: اتركهم حتى يلاقوا، ويعاينوا يوم كشف الغطاء العذاب الواصل إليهم بعين العيان، ويصعقون من هيبة العذاب ولا صراخ لهم { يَوْمَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } [الطور: 46]؛ لأنهم ضيعوا الاستعدادات التي أعطيناهم من الآلات والأدوات الجسمانية والروحانية عارية؛ ليكتسبوا بها في دار الكسب النعيم الأخروي الباقي، واستعملوها في تحصيل نعيمهم الدنيوي الفاني، وحصلوا بتلك الآلات والأوقات والإنكار والأغلال والعذاب الأليم الدائم، فليس لهم صريخ، ولا نصير.
{ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } [الطور: 47]؛ أي: القوى التي ظلمت على اللطيفة الخفيفة، يمنعها عنها حقها من الحظوظ النفسانية المزكاة، { عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ } [الطور: 47]، وهو عذاب يحصل لهم من عملهم بأن اللطيفة كانت معهم في جميع الأحوال، رقيبة لهم مطلعة عليهم، وهم قصروا في خدمتها وكادوا بها كيداً عظيماً، وظلموا عليها بمنع الخلق الحظي عنها، وهذا من أشد العذاب، وفي دار المقام للقوى الظالمة الكافرة الباقية العارفة بما ضيعت وقصرت، ولا سبيل لها إلى الرجوع للتدارك، ولا تنسى أبد الدهر تقصيرها.
{ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [الطور: 47]؛ يعني: لا يعلم أكثر الخلق اليوم ما يدخر لهم من مكتسباتهم غداً في دار المقامة؛ لكثافة حجب جهلهم بأجر الآخرة، وقصور نظرهم عن اللذات الآجلة، مقصورة همتهم على الشهوة العاجلة، وغلظ أستار ظلمهم من ظلام وجودهم.
{ وَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } [الطور: 48] يا صاحب اللطيفة الخفية، { فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } [الطور: 48]؛ أي: بحفظنا [وأمننا] وأنت عزيز عندنا، { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } [الطور: 48]؛ أي: نزهه عن الشريك وتيقن أن تنزيهك وتسبيحك له من توفيقه، واحمده حمد العاجز عن أداء حق حمده؛ ليكون هذا العجز منك محموداً عند ربك { حِينَ تَقُومُ } [الطور: 48]، مقام العبودية على عتبة العبدية.
{ وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ } [الطور: 49]، يعني: فسبحه عند نزول السكينة عليك؛ ليدخلك في دار الحرية ويجلسك على سرير الكرامة، { وَإِدْبَارَ ٱلنُّجُومِ } [الطور: 49]؛ أي: إدبار نجوم اللطائف عند ظهور نجم اللطيفة الخفية، وأيضاً وقت هلاك النجوم عند ظهور قوى شمس الوجه، كما بقوله تعالى:
{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [القصص: 88].
فينبغي أن يسبح السالك له عند ظهور نور الوجه بلسانه، ويتحرز عن إثبات وجود غير وجوده؛ لأنه شرك مطلق في ذلك المقام، وبدوّ نجوم القوى الروحانية أيضاً دليل قاطع على طلوع شمس الوجه على سبيل الجذبة والسر، الذي به صارت اللطائف القالبية والنفسية والقلبية والسرية والروحية والخفية محلاً للقسم.
وذكر البحر المسجور بعد ذكر اللطائف القالبية والقلبية والسرية والروحية والخفية في القسم الملكوتي والسر، الذي سلك القلب في سلك السر في القسم، وإن القسم بقاف القلب مدرج في قاف والقرآن، و الخصوصية التي بها ما أقسم بين قسمه باللطائف الخمسة، باللطيفة القلبية والخفية، وأقسم منهما منفرداً في سورة قاف والنجم، وسورة النجم مكية وهي اثنا وثلاثون آية من حدود القرآن، ولا يمكن لأحد أن يفسر حد القرآن برأيه الملكوتي؛ لأنه يتعلق بأسرار عالم الجبروت، ومطلع القرآن يتعلق بأسرار عالم اللاهوت، فأما بطن القرآن من أسرار عالم الملكوت، والذي أشرت إليه في تفسير هذه السورة كان من بطن القرين مما ينبغي للسالك أن يعرفه؛ ليمكن له السلوك ويصح له التوجه إلى مالك الملوك، فالواجب على مفسر ظاهر القرآن ألاَّ يفسر إلا بالسماع، وعلى المحقق ألاَّ يفسر البطن إلا بإلهام، وعلى الموحد ألاَّ يفسر الحد إلا بإذن، وعلى المطلع على سر الذات أن يصير ألكن، وأبكم في مطلع القرآن؛ ليكون هو المبين، والله المستعان وعليه التكلان.