التفاسير

< >
عرض

وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ
١
مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ
٢
وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ
٣
إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ
٤
عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ
٥
ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ
٦
وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ
٧
ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ
٨
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ
٩
فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ
١٠
مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ
١١
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ
١٢
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ
١٣
عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ
١٤
عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ
١٥
-النجم

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

أيها المسبح بأعداد النجوم عند نزول النجم الحقيقي الذي صار محلاً للقسم، حيث قال في كتابه المحكم: { وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ } [النجم: 1]؛ يعني: بحق اللطيفة الخفية النازلة على محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم، { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ } [النجم: 2]؛ يعني: ما ضل محمد صلى الله عليه وسلم فيما اختار طاعة الله وعبادته، وما غوى فيما يأمركم به وينهاكم عنه، { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } [النجم: 3]، وما يتكلم عن هوى نفسه أبداً، { إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ } [النجم: 4]؛ يعني: ليس نطقه وكلامه إلا وحياً من الله تعالى يوحي إليه، { عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ } [النجم: 5]؛ يعني: علمه جبرائيل الذي هو أمين الوحي، وحظك منه أيها السالك في عالم الأنفس أن تعلم أن الله أودع فيك اللطفيفة الخفية؛ وهي داعية إلى الحق اللطائف القالبية والنفسية، والقلبية والسرية، والروحية والخفية، وقواها والوارد الذي يرد عليك عند التصفية والتزكية كان من عند الله، علمتك القوة الروحانية الشديدة على الشيطان.
{ ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ } [النجم: 6]؛ يعني: ذي قوة معتدلة بأمر الحق عند اللطيفة الخفية، { وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ } [النجم: 7]؛ يعني: محمد كان بالأفق الأعلى حين ذي قوة استواء جبرائيل والأفق الأعلى كان لمحمد ولروحانيته؛ لأن أفقه كان أعلى الأفق، ولكل لطيفة أفق ما فوقه وأفق ما تحته، فملحمد أفقان:
أفق الفوق إلى الحق: وهو الأفق المبين.
وأفق التحت إلى الخلق، والأفق الأعلى؛ أي: أفقه أعلى الأفق ومنتهى وصول اللطائف إليه، فكذلك للطيفتك الخفية أفقان فاطلب أفقها، واجتهد أن تأخذ من الحق في الأفق المبين؛ يعني: بلا واسطة ولا تقنع بالستور؛ لئلا تكون ممن أكل من تحته، وكن عالي الهمة لتأكل من الفوق والتحت ومن جميع الجهات، ثم لا تقنع بهذا حتى تصل إلى مقام تأكل منه، ولا يمكن لأحد أن يأكل من ذاته إلا بعد وصوله إلى الذات الواحدة وهلاكه فيها، وبيان سر الهلاك في الذات يقرع باب الطلع، وأما مأمور شدة فأعبر وأعتبر.
{ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ } [النجم: 8]؛ يعني: نزل شديد القوة على اللطيفة ودنا منها فكان دنوه، { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } [النجم: 9] مقدار قوسين أو أدنى، افهم يا سالك أن اللطيفة الخفية دنت من الحق، فتدلت بنزولها من أفق الأزل إلى أفق الأبد حتى تصل أفق الأزل بالأبد، وهو عبارة عن { قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } [النجم: 9]، إشارة إلى: اتصال طرفي القوس عند غاية النزع، وهذه العبارة والإشارة يدلان على وصول اللطيفة الخفية إلى الحق على حد ما كان لأحد أن يتجاوز ذلك الحد، والذي أشار إليه المفسرون: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبرائيل بحيث سد الأفق قول صدق وكلام حق، ولكن ينبغي أن يعرف اللطيفة الجبرائيلية والأفق، ويعلم أن صورته كيف سرقت الأفق وما يعني سد الأفق، وحقائق هذه الأشياء متعلقة بحد القرآن مما لا يؤذن تفسيره، خذ من تفسير بطنه نصيب باطنك، وخذ من ظهره حظ ظاهرك؛ وهو الإيمان والإقرار مما قال الله تعالى، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرادوا أراد رسول الله بذلك القول.
{ فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ } [النجم: 10]؛ يعني: أوحى الله تعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام أعلى مقام الزلفى والقربى جهراً، ما أوحى إلى سره قبل ذلك الوقت سراً، وهذا السر كشوفي ثم شهودي؛ يعني: ألهم الرب سر السالك من حيث الكشف في البداية سراً، ثم يلهمه بعد إيصاله إلى حضرة المشاهدة جهراً؛ ليتفق بالإلهام الكشفي أنه كان من الحق سبب الوحي الجهري حالة الشهود، وهذه الطريقة مبناه واضحة عند أصحاب الوصول في السير والسلوك.
{ مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ } [النجم: 11]؛ يعني في الوحي الشهودي لا يمكن للقوة المدركة أن تكذب ما رأى فؤادها، غير أنها في عالم الكشف كانت دخيلة نظراً عليها الشبهة بإلقاء الشيطان في روعها، { أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ } [النجم: 12] في المشاهدة؛ يعني: خاطبي قواك، أتنكرون على اللطيفة ما رأت في عالم الشهود؟ ويجادلها { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ } [النجم: 13]؛ يعني: اللطيفة الخفية، رأى الحق بعد نزوله من الأفق الأعلى إلى سدرة المنتهى وسدرة المنتهى ووحيه، كما أن الأفق الأعلى خفي، فيها جنة المأوى كما قال تعالى: { عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ * عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ } [النجم: 14-15]، وكل ما ذكره أهل الظاهر في تفسير سدرة المنتهى حق، فينبغي أن يشاهد السالك في معراجه مثل ما ذكروه، وجنة المأوى اليوم موجودة بل هي معك، فإن كنت عمرتها وزرعت فيها البذور والطيبة صارت جنة المأوى، والنار موجودة وهي معك، فإن كنت عمرتها وزرعت فيها البذور الفاسدة صارت جهنم وهي أيضاً معك، وكلاهما في المنتهى، ولكل أحد من الناس سدرة المنتهى حاصلة؛ لأن منتهى سره يكون إليها ولا يمكن التجاوز عنها، فأما المخصوصون المجذوبون فإنهم جذبوا عنها بجذبات اللطف، كما أخبرنا الصادق الصدوق صلى الله عليه وسلم بقوله:
"جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين" ؛ لأن العامل يصل بعمله إلى سدرة منتهاه، ولا يمكن التجاوز عنها بعمله؛ لأن العمل يتعلق بالعامل، ولا يصل أحد إلى الله بعمله إلا بتوفيقه وجذبته، ولكن يصل بعمله المخلوق إلى سدرة منتهاه؛ وهي أيضاً مخلوقة، فاجتهد في أن تصل إلى سدرة منتهى استعدادك اليوم، وتشاهد ما هيئت نفسك في سدرتك، ولا تلتفت إليه وتوجه بالكلية شطر جناب الجبروت؛ لأن السدرة وما فيها ملكوتية.