التفاسير

< >
عرض

ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ
١
وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ
٢
وَكَذَّبُواْ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ
٣
وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ ٱلأَنبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ
٤
حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ ٱلنُّذُرُ
٥
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ ٱلدَّاعِ إِلَىٰ شَيْءٍ نُّكُرٍ
٦
خُشَّعاً أَبْصَٰرُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ
٧
مُّهْطِعِينَ إِلَى ٱلدَّاعِ يَقُولُ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ
٨
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَٱزْدُجِرَ
٩
-القمر

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

أيتها القوى العلوية الساجدة، وأيتها القوة السفلية العابدة اعلما أن الساعة قد قربت، وافهما ما يقول الله تعالى في كلامه حيث يقول: { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ } [القمر: 1] يعني: قيامة القلب دنت، وعلامة دونها انشقاق قمر القلب، كما يقول بعده: { وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ } [القمر: 1] الهيبة الوارد القهري.
{ وَإِن يَرَوْاْ آيَةً } [القمر: 2]؛ يعني: القوى الكافرة القالبية والمشركة والمنافقة النفسية، آية انشقاق قمر القلب أو غيرهما من الآيات البينات الأنفسية { يُعْرِضُواْ } [القمر: 2] عن الآيات لبينة، { وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } [القمر: 2]؛ يعني: سحر بأعيننا واستمر فينا، وليست لهذه الآيات حقيقة، واستدلوا بعلمهم الحاصل من قبيل العقل أن الخرق والالتئام محال في الفلكيات، وما فطنوا أنه إن لم يكن هذا الأمر محالاً عند العقل، فكيف يكون إظهاره على يد البشر؟ ومعنى المعجزة أن الأناسي يعجزون عن إتيان مثل ما يأتي به صاحب المعجزة الذي هو إنس من الأناسي، فحملتهم شقاوتهم على إنكار المعجزة، وقدرهم إنكارهم سلاسل الاستكبار حتى لا يقبلوا الحق فأوردتهم شقاوتهم النار.
{ وَكَذَّبُواْ } [القمر: 3] اللطيفة الخفية المرسلة إلى جميع قوى اللطائف؛ ليدعوهم إلى الحق بالمعجزات القاطعة والآيات الساطعة، { وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ } [القمر: 3] المردية { وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } [القمر: 3] بأهله من الخير والشر، فالخير مستقر بأهله في الجنة، كما يقول تعالى:
{ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ } [يونس: 26]، والشر مستقر بأهله في النار، كما يقول تعالى للذين أساءوا السوء؛ لأن كل أحد من الناس يعمل على شاكلته، ويختم له في نهايته على ما قدره الله له في بدايته من سعادته وشقاوته.
{ وَلَقَدْ جَآءَهُم } [القمر: 4]؛ يعني: أهل مكة، وجودهم الكافرة بالواد الخفي والبيان الجلي { مِّنَ ٱلأَنبَآءِ } [القمر: 4]؛ يعني: من أخبار القوى المكذبة للطائف السالفة، ومما حان معهم من العذاب { مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } [القمر: 4] من الزجر والوعظ؛ ليزدجروا عن التكذيب والإنكار.
{ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ } [القمر: 5]، تامة بلغت منتهاها في الوعظ والزجر، { فَمَا تُغْنِ ٱلنُّذُرُ } [القمر: 5]؛ يعني: ليست موعظة النذر بالحكمة البالغة الواردة للقوى الكافرة المشركة المستكبرة الناطقة، { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } [القمر: 6] أيتها اللطيفة الخفية؛ لأنهم جبلوا على الشقاوة { يَوْمَ يَدْعُ ٱلدَّاعِ إِلَىٰ شَيْءٍ نُّكُرٍ } [القمر: 6]؛ يعني: يوم يدعو داعي الأماني لقطع الأمنية وهو أنكر الأشياء؛ لأن قطع الرجاء عن المستغيث والبلاء اشد من البلاء، وأنكر العناء نريهم، { خُشَّعاً أَبْصَٰرُهُمْ } [القمر: 7]، في تلك الأشياء؛ لأن قطع الحالة المنكرة؛ أي: دليله خاضعة ناظرة إلى كل من يمر عليهم بالذل والمسكنة ليرحم عليهم المار، { يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ } [القمر: 7]؛ يعني: حين يدعوهم الداعي خرجوا من قبور قوالبهم شاءوا أو أبوا، { كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } [القمر: 7] فتفرق، ويكون صور قواهم المكتسبة في البدن المجعول مثل الجراد المتفرق حيارى متفرقين، { مُّهْطِعِينَ }[القمر: 8] مسرعين مقلبين { إِلَى ٱلدَّاعِ } [القمر: 8]؛ وهو قواه أسرا قبليتهم المسلطة عليهم، { يَقُولُ ٱلْكَافِرُونَ } [القمر: 8] بالحق المنكرون آياته، المكذبون لطائفه المرسلة إليهم بالمعجزات الواضحة الآيات البينة، { هَـٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } [القمر: 8] صعب شديد، لا قدرة لنا على دفع الداعي المسلط علينا، ولا يسمع منا عذر ولا تنفعنا شفاعة، والله ما ذلك اليوم إلا يوم عسر عبوس، فالسعيد من أيقظ بهذه المواعظ وأقبل على الحق وأدبر عن الباطل، وترك الهوى واشتغل بعبادة المولى، وعلم أن الخروج من الدنيا والدخول في العقبى حتى كتبه الله على اللطيفة الإنسانية وتنعمها وتأملها أبد الآباد، سبب كسب البدن المكسب الباقي في هذا البدن المجعول الفاني من جواهر المفردات السفلية، ولطائف المفردات العلوية الحقيقة فيها وقت الإيجاد صدق لا شك فيه، كما أن الفرخ المستكن في البيضة إذا تمت مودته الفرخية كيف يُقَشِّر قشر البيضة، والمجعول بتربية دجاجة الروح الإنسية ويطير في هوى الهوية، ويسرح في رياض الجنة القلبية، ويأكل من ثمار معرفة الربوبية، ويشرب من شراب الألوهية، وكل هذا يحصل للسالك في الدنيا بالموت الاختياري، كما يقول الحكيم السني للسيد المسمى بالسمناني -رحمه الله - بالفارسية بيت شريف:
بمير؛ أي: روست بيش أزمرك أكرمي نزندكي خواهي كه ادريس ازجنين مردن بهشتي كشت بيش أزماه.
وإشارة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:
" { موتوا قبل أن تموتوا } كانت إلى هذه الحقيقة { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ } [القمر: 9]؛ يعني: القوى القالبية والنفسية كذبت اللطيفة النفسية المستخلصة عن الكدورات المطهرة عن القاذورات، المرسلة بالآيات البينات، { فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا } [القمر: 9]؛ يعني: تلك القوى كذبو اللطيفة المأمورة المطهرة النفسية بما بلغت إليهم من الآيات البينات الأنفسية في بداية السلوك، { وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَٱزْدُجِرَ } [القمر: 9]؛ يعني: ازدجر بين عشيرته القربية؛ وهي القوى النفسية، فصار مجنوناً، وشاهدت هذا الحال في بداية أمري؛ إذ نسبني إلى الجنون والدي وعمي وجميع أقربائي وأحبائي، فلما اشتغلت بالذكر الخفي القوي ظهرت لي في الليلة الأولى شرارات نيران منورة من صدري حتى لحقت بالسماء، فلما فتحت العين وأبصرتها معاينة قلت في نفسي: إن الذين يقولون في حقي صدق، ما هذه المعاينة للشرارات في ظلمة الليل في جوف البيت المظلم إلا من فساد جذب في الدماغ؟ والقوى المكذبة النفسية يخوفوني ويمنعونني عن الذكر، والقوى الشيطانية يشككوني في مشاهدة الآية البينة وقلبي كان غير ملتفت إلى أقوالهم، مشتغلاً بالذكر حتى طلع الصبح، فلما خرجت من البيت ودخلت المسجد لصلاة الجماعة ظهر فوق سجادتي وعن يميني، وعن قبلتي كواكب درّية لا تحصى، فخفت عنها في الظاهر وأنست بها في الباطن، والقوى المشكلة الشيطانية والقوى المكذبة النفسية أيضاً يشوشونني ويأمرونني بترك الذكر، وأنا روعان من ألسن الناس أن أقفوه بما أشهده وأعاينه، وهذه المشاهدة حصلت لي أول ليلة اشتغالي بالذكر الخفي القوي، على وفق مذهب مشايخنا - قدس ألله أرواحهم - وكنت قبل هذه الليلة مشتغلاً بكثرة الأوراد المأثورة، والأذكار اللسانية من أنواع التسبيحات والتهليلات، والتكبيرات والتحميدات، والصلاة والسلام، وكثرة الركعات والسجدات في الصلاة، وبالمجاهدات والرياضيات، على وفق ما يعجبني مما حكي من المشايخ المتقدمة، ففي هذه الآية أخذت هذا الذكر القوي الخفي بشرط النفي والإثبات من أخ لي في الدين -رحمه الله - وكان من مريدي شيخنا - أطال الله بقاءه - فلما اشتغلت بالذكر ظهرت لي هذه الحالات، وما قلت له معه لخوفي عما يقولون، فلما ظننت الإشراق وظهرت لي الكواكب الدرّية، بحيث لا يحصى عددها ولا يوصف ضياؤها، قلت مع أخي شرف الدين: هذه الأقوال، فاستبشر وتبسّم وقال: الحمد الله الذي هداك إلى هذه المشاهدة الغيبية والآيات الأنفسية، وإنا قد سلكنا سنة واحدة في حرم بيت الله الحرام، فبعد ذلك حصلت لنا هذه الشرارات على جبل عرفات، فأحسن الله إليك ووفقك لمشاهدة هذه الآيات في مدة قريبة، فالواجب عليك القيام بشكر الحق، والقيام بشكره هو أن تعتزل الناس وتشتغل بهذا الذكر على هذه الشريطة، فيفتح عليك باب القلب إن شاء الله تعالى، فاسترحت من القوى المكذبة والمتفككة.
واشتغلت بعد ذلك بالذكر، واخترت العزلة والخلوة سنتين متتابعتين حتى جلت بعد هذه المدة في خلق الأربعين الموسوية، وفتح الله بلفظ على قلبي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وسلكت الطريق على الترتيب من العبور على قوى القالبية على وفق دعوة اللطيفة الآدمية، ثم على القوى النفسية على وفق دعوة اللطيفة النوحية، ثم على القوى القلبية على وفق اللطيفة الإبراهيمية، ثم على القوى السرية على وفق دعوة اللطيفة الموسوية، ثم على القوى الروحية على وفق دعوة اللطيفة الداودية، ثم على القوى الخفية على وفق دعوة القوة العيسوية، ثم على القوة الخفية المودعة في جميع القوة على وفق دعوة القوة اللطيفة الخفية، وهي الدعوة المحمدية، دعا الناس بها صلى الله عليه وسلم وسمعت من جميع القوى من التكذيب والتشكيك في أمر اللطائف وإنكارهم دعوتهم وكفرهم بربهم ما لا يمكن كتبة عشر عشره في المجلدات.
ومقصودي من كتابة هذه الحالة الواحدة التي تظهر في البداية للسالك؛ هو أن يعلم الرجل المطالع هذا الكتاب المسمى "نجم القرآن"؛ وهو المزيل للتفسير النجمي الذي كتبه الموفق نجم الدين داية الأسدي الرازي - شكر الله سعيه - من أول القرآن إلى سورة النجم، فلما وصل إلى سورة النجم قال: يكون عجب أن يأذن الله لي في الشروع في النجم وإتمامه، فإذا وصل إلى النجم وشرع ومرض وعرج بنجمه المنير في أرض البشرية إلى سماء الربوبية وألهمنا الله تعالى إتمام تفسيره، والتفسير المكتوب بخطه الشريف تسع مجلدات، وهذا المزيل مجلد واحد؛ ليكون معشرة كاملة خفية، ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
"إن للقرآن ظهراً وبطناً..." ، ويؤمن ببطنه كما آمن بظهره، ولا يشك فيما أشرنا إلى تكذيب القوى للآيات الأنفسية وإنكارهم اللطائف المرسلة وآياتهم الخفية؛ لئلا يشقى عند مطالعة هذا الكتاب بإنكاره الآيات البينات التي شهادها كاتبها مراراً، غير معدودة من بداية اشتغاله بالسلوك إلى هذا الوقت الذي ألهم كتابة هذه الآيات ومقدار زمان اشتغاله بالذكر، هذا الذي وصفته لك، فقس بواقي الآيات عليها؛ لأن الخبير يقنعه القليل من الكثير، ولا يزيد للبليد إظهار الآيات إلا الإنكار بالتقليد.