التفاسير

< >
عرض

وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي ٱلزُّبُرِ
٥٢
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ
٥٣
إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ
٥٤
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ
٥٥
-القمر

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

{ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي ٱلزُّبُرِ } [القمر: 52]؛ يعني: مكتوب في كتبنا كل ما عمل شخص من الأشخاص، وتلك الكتب الموجودة مع كل أحد من بني آدم؛ ولكنهم لكثافة حجبهم الظلمانية لا يستطيعون قراءتها، أما ترى أيها الجاهل الغافل إذا صريع مصروع، عامي أمي كيف يقرأ القرآن، والزبور، والتوراة، والإنجيل؟ وكيف يتكلم المصروع العجمي بالعربي، والعربي بالعجمي، والمغولي بالهندي، والهندي بالمغولي؟ فلولا أن تلك الكتب المكتوبة على الألواح موجودة فكيف يقدر بعد الإغماء عليه لخرق حجابه على قراءة تلك الكتب؟ ولأجل هذا ضرب به المثل ابن الفارض وهو من محققي هذه الأمة في قصيدته التائية، غير أنه رجع القهقرى حتى مال إلى الإيجاد، قالرحمه الله تعالى:

مثالَ مُحِقٍّ والحقيقةُ عُمْدتي وأُثْبِتُ با لبُرهانِ قَوليَ ضارباً
على فَمِها في مَسّها حيثُ جُنّتِ بِمَتْبوعةٍ يُنبيكَ في الصّرعِ غيرُها
عليهِ براهينُ الأدلّةِ صَحّت ومِنْ لُغَةٍ تبدو بِغَيرِ لسانها

وهذا شيء شاهدناه مراراً ثم شاهدنا في سلوك الطريقة أن الساك الأمي يقرأ جميع القرآن في طرفة عين وإلى هذه الحقيقة أشار ابن الفارض حيث قالرحمه الله :

وقُلْ ليَ مَن ألقى إليكَ عُلُومَهُ وقد ركدتْ منكَ الحواسُ بغَفْوَة
وما كنتَ تدري قبل يومك ما جرَى بأمسِكَ أو ما سوفَ يجري بغُدوة
فأصبحتَ ذا علِمْ باخبار مَنْ مَضى وأسرارِ من يأتي مُدِلاً بخِبْرَة
أتحسبُ من جاراكَ في سِنةِ الكَرَى سِواكَ بأنواعِ العُلُومِ الجليلة
وما هِيَ إلاّ النْفسُ عند اشتغِالها بعالَمِها عن مَظهَرِ البَشَرِيّة
تَجَلّتْ لها بالغَيبِ في شكلِ عالِمٍ هَداها إلى فَهْمِ المَعاني الغريبة
وقد طُبِعَتْ فيها العُلُومُ وأُعْلِنَتْ بأسمائها قِدْامَاً بوَحْيِ الأُبُوة

فاجتهدوا أيها الغافلون في تطهير لوح الباطن عن الغبار الواقع على وجهه من عالم الجذب، سبب ريح الهوى بالذكر الكريم؛ ليقرؤوا جميع الكتب المنزلة وغير المنزلة، وتطَّلعوا على أم الكتاب هو مخزون في عالم الجبروت عند الرب، وفصيح لسانك بجميع اللغات وقت الغدر عن مشاهدة الصغائر والكبائر المكتوبة على ألواحكم، كما يقول الله تعالى: { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ } [القمر: 53]؛ يعني: صغائر أعمالكم وكبائرها من الخير والشر، مكتوبة على ألواحكم.
{ إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ } [القمر: 54]؛ يعني: الذين اتقوا عن غبار تراب الطبيعة، وريح الهوى في جنات قلوبهم ونهر معارفهم الجبروتية، مستريحون { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ } [القمر: 55] وهو موضع الحكمة { عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } [القمر: 55]؛ يعني: موضع الحكمة عند القدرة وفيه أسرار رحمته، أشرح لك نبذة نستفيد منها ما يهز به عطف إرادتك للطلب.
اعلم أن مفاتيح الغيب ومقعد الصدق، وأم الكتاب عنده في عالم الجبروت، وهي مظاهر جبروتية لصفات لاهوتية؛ وهي: الحياة، والسمع، والبصر، والكلام، والعلم، والقدرة، والإرادة، والحكمة، وجواهر الملائكة الأربع، والعناصر الأربعة في الملكوت، مظاهر لمظاهر الصفات الجبروتية، وقال الإنسان المنفوخ فيه الروح مظهر لمظاهر الصفات الملكوتية؛ التي هي مظهر لمظاهر الصفات الجبرويتة؛ التي هي مظاهر الصفات اللاهوتية، وقال الإنسان ناسوتي، وبه يتم أمر الحكمة وهو أنت، فانظر إلى نفسك لترى آيات أفعال الحق، وادخل في نفسك تشاهد آيات صفات الحق، واصقل مرآة نفسك لتشرف بمشاهدة جمال الحق، وارحم نفسك بنفسك في نفسك ولا تضع قدمك خارجاً من حرم نفسك؛ لأنها البيت الحرام وكعبة الأمان ودار السلام، وفيها الجنة والرضوان والروح والريحان؛ لئلا تضل في بادية الجريان بالخيبة والخسران، فالعالم بأسره ملكه وملكوته، وغيبته وشهادته، وأنفسه وآفاقه إنسان صغير، والإنسان عالم كبير، فالويل لمن ترك الكبير للصغير، وحقير من يقنع بالقليل من الكثير.
اللهم ارفع همتنا بطلب الملك القدير، ووفقنا لمتابعة حبيبك المنير، البشير النذير للخير والشر به صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.