التفاسير

< >
عرض

فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ
٨٦
تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٨٧
فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ
٨٨
فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ
٨٩
وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ
٩٠
فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ
٩١
وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُكَذِّبِينَ ٱلضَّآلِّينَ
٩٢
فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ
٩٣
-الواقعة

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

{ فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } [الواقعة: 86]؛ يعني: هلاَّ إن كنتم غير مملوكين مسخرين، { تَرْجِعُونَهَآ } [الواقعة: 87]؛ يعني: تردون الروح التي بلغت الحلقوم { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [الواقعة: 87] بأنكم قادرون غير عاجزين، مالكون غير مملوكين، فإذا أعلمتم عجزكم فاعلموا أن الله الذي خلقكم بقدرته وأحياكم بإرادته وأماتكم بحكمته، قادر على أن يبعثكم من قبر قالبكم بعد موتكم، محط للسالك أن يتعين في حالة القبض، أن الله هو القابض لا يقدر على ترديد حياة البسط إذا نزعها الله عنه وتفوض أمره إلى مالكه الذي في قبضته متردد، كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فإن شاء أماته بالقبض، وإن شاء أحياه بالبسط، وإن شاء أماته بالنكرة، وإن شاء أحياه بالمعرفة" ، بترك اختيار نفسه إلى مسلكه ليوصله إلى مرتبة، بترك اختياره للحق ويكون كالميت بين يدي الغسال في الحضرة يمشون على وجه الأرض مقصورين، كما قال صلى الله عليه وسلم: "من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الآخرة يمشي على وجه الأرض، فلينظر إلى هذا" ، وأشار إلى أبي بكر رضي الله عنه؛ لأنه شاهد في هذا اليوم أن الأمر لله، كما يشاهد الآخرون في الآخرة، ويقولون: { وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [الانفطار: 19]، ولو لم يترك السالك اختياره بالتفويض جميع أموره إليه لم يصل إلى مطلوبه البتة.
{ فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ } [الواقعة: 88-89]؛ يعني: روح من روح الذِّكر الروحي، وريحان من نسيم الذِّكر السري، وجنة نعيم من ذوق الذِّكر القلبي، { وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ * فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ } [الواقعة: 90-91]؛ يعني: سلامة لك من شؤم العقوبة والعذاب الدائم؛ لسلامة جوارحك وأعضائك عن ارتكاب المنهيات، وسلامة صدرك عن الغل والحقد والحسد، إنك من أصحاب اليمين، { وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُكَذِّبِينَ ٱلضَّآلِّينَ } [الواقعة: 92]؛ يعني: المكذبين باللطيفة الضالين في بيداء الشبه، فهم أصحاب المشأمة لشؤم تكذيبهم وتضليلهم مما كسبوه في دار الكسب من الحميم والجحيم، ولأجل هذا يجزيهم الله في الآخرة بمثل ما كسبوه لأنفسهم في دار الكسب، وبقوله تعالى: { فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } [الواقعة: 93-94]؛ يعني: حميم عنصر مائية المستحق بنار الشهوات وجحيم عنصر نارية المشتعلة بريح الهوى المحملة بتراب الطبيعة المكدرة، { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ حَقُّ ٱلْيَقِينِ } [الواقعة: 95]؛ يعني: إن هذا البيان لهو الحق؛ لأنه كلام الحق وبيانه عن عالم اليقين، وإما تخرب قواك بثلاثة أخراب، وجزاءهم بما كسبوا في دار الكسب من الأعمال الصالحة والفاسدة المدخرة لهم في دار الجزاء، فاعلم أن اللطائف المرسلة والحقائق الحقوقية المسكنة في جميع القوى العلوية والسفلية؛ هم المقربون السابقون، والقوى المؤمنة باللطائف المرسلة من القوى القالبية والنفسية، والقلبية والسرية، والروحية والخفية والحقية؛ هي من أصحاب اليمين السالمين من العقاب يوم المآب، المتنعمين بأعمالهم الصالحة الباقية لهم في دار الثواب، والقوى الكافرة القالبية والمشركة النفسية والمنافقة والقلبية والجاحدة السرية والمستبكرة الروحية والضالة الخفية ممن لم يؤمنوا باللطيفة الخفية؛ هي من أصحاب المشأمة المشئومين المكذبون الضالون، فأبشر أيها المحمدي إنك لست من أصحاب المشأمة إن كنت دخلت في دار التصديق وهو شهادتك بأن "لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" ومن وفق لهذه الشهادة من إخلاص وتصديق يكون من أصحاب اليمين ويكون رفيقه التوفيق، ولا يمكن للشيطان أن يقطع عليه الطريق، وإلى هذا أشار النبي الصادق الصدوق:
"من قال لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنة" ، وهذا التشريف يصل إلى أمة الحبيب الشريف صاحب الخلق اللطيف، والخلق الظريف، والقلب النظيف - عليه أفضل التحية والسلام - لشرفه فطوبى لمن تبعه في الشريعة، وطوبى ثم طوبى لمن تبعه في الشريعة والطريقة، وطوبى ثم طوبى لم تبعه في الشريعة ووصل إلى عالم اليقين بصورة الذكر، ثم تبعه في الطريقة ووصل إلى عين اليقين؛ يعني: الذكر، ثم تبعه في الحقيقة ووصل إلى حق اليقين بحقيقة الذكر، ثم نزه مجاري الذكر الخفي عن صورة الذكر ومعناه وحقيقته؛ ليستحق أن يجري عليه الذكر الخفي ويكون محلاً للقسم، كما قال الله تعالى: { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ } [الواقعة: 75] بعد وصول الذاكر بصورة الذكر إلى علم اليقين، فأمره أن ينزه مجاري ذكره من صورة الذكر؛ ليستحق أن يجري عليه الذكر المعنوي بقول: { فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ } [الواقعة: 96] مجاري الذكر الخفي عن صورة الذكر الموصل، فهكذا يقول بعد وصوله إلى عين اليقين وحق اليقين: { فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ } [الواقعة: 96]؛ يعني: نزه باسم ربك العظيم مجاري الذكر الخفي عن صورة الذكر الموصل إلى علم اليقين؛ ومعنى الذكر الموصل إلى عين اليقين وحقيقة الذكر الموصل إلى الحق اليقين؛ ليستحق أن يجري عليه الذكر الخفي الموصل للذاكر إلى حقيقة حق اليقين؛ ليصير الذاكر مذكوراً ويصل القاصد إلى المقصود، ويكون الشاهد هو المشهود، وسر هذه اللطيفة في حد القرآن فاقتصر على رَمز رُمز به إليه واجتهد في الذكر الصوري برعاية شرائطه، وهو أن يذكر الله بالقوة الخفية بالشرط والإثبات؛ ليصل إلى الذكر المعنوي، ثم اجتهد في الذكر المعنوي برعاية المتحد في الذكر مع الذاكر؛ لتصل إلى الذكر الحقيقي، ثم اجتهد في الذكر الحقيقي بنفي قوة ذاكرتك وإثبات القوة المذكورية؛ لتصل إلى الذكر الخفي؛ فإذا وصلت إليه وقت ما في ذاتك بذاتك لذاتك، وصرت ملكاً حياً باقياً، ويكون عنوان منشور ملكيتك في دار البقاء من الملك الحي الذي لا يموت إلى الملك الحي الذي لا يموت، فاجتهد في ألاَّ تفوت هذه المرتبة في الحال ولا تغرنك الآمال الصادقة لك عن الاجتهاد بالإرجاء بأنك تصل إليها في المال؛ لأن ترك النقد بالوعد للوصل إلى الفقد المتروك لا يكون إلا في قلة العقل وهي من أقبح الخصال.
اللهم ارزقنا الوصال في الحال، وأذقنا بكأس مشاهدة الجمال زلال رحيق الجلال بحق صاحب الكمال صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه خير صحب وآل التابعين لهم بإحسان من أهل اللطف والنوال.