التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّٰهُمْ فِي ٱلأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا ٱلأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَٰهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ
٦
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَٰباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ
٧
وَقَالُواْ لَوْلاۤ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ ٱلأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ
٨
وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَٰهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ
٩
وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ
١٠
قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ثُمَّ ٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ
١١
-الأنعام

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن أحوال أمثالهم بقوله تعالى: { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ } [الأنعام: 6]، والإشارة فيها أن المكذبين والمستهزئين بأرباب الطلب وأهل الحق ألم يروا كم أهلكنا أرواح المكذبين والمستهزئين من قبلهم من قرن لشؤم ذنوبهم واستهزائهم { مَّكَّنَّٰهُمْ فِي ٱلأَرْضِ } [الأنعام: 6]، في طلب الحق وقهر النفس ونهي الهوى، وترك الدنيا وإقامة الطاعات وإدامة الخيرات { مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ } [الأنعام: 6]، أيها المكذبون منها شيئاً { وَأَرْسَلْنَا ٱلسَّمَآءَ } [الأنعام: 6]؛ أي: مطر الواردات من سماء القلوب { عَلَيْهِم مِّدْرَاراً } [الأنعام: 6]، متوالياً متعاقباً { وَجَعَلْنَا ٱلأَنْهَارَ } [الأنعام: 6]؛ أي: مياه الحكمة { تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ } [الأنعام: 6]؛ أي: من تحت نظرهم، { فَأَهْلَكْنَٰهُمْ } [الأنعام: 6] مع هذه المقدمات { بِذُنُوبِهِمْ } [الأنعام: 6]؛ أي: أهلكنا أرواحهم بعد أن تمكنوا من أموالنا واستغنوا بزاهد نوالنا، فوطنوا على كواذب المنى قلوبهم وطلبوا من الدنيا محبوبهم، ففتحنا عليهم من مكامن التقدير بسوء التدبير فشربوا من كؤوس الذنوب سموم القلوب، فإن الذنوب سمومها كما أن الطاعات له حباتها { وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ } [الأنعام: 6]؛ أي: من بعد إعراضهم عن الحق وإتباعهم الهوى وهلاك أرواحهم بطلب الدنيا واستيفاء لذاتها وشهواتها { قَرْناً آخَرِينَ } [الأنعام: 6]، من الطلاب الصادقين المخلصين التائبين المستقيمين في الطلب.
ثم أخبر عن حرمان أهل الخذلان بقوله تعالى: { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَٰباً فِي قِرْطَاسٍ } [الأنعام: 7]؛ أي: قوله: { مَّا يَلْبِسُونَ } الإشارة فيها أن من أعرض عن الحق، وأقبل على الدنيا وشهواتها يعمى له قلبه فلا يشاهد الآيات، وإن جعلته في كسوة الصورة، قال تعالى: { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَٰباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [الأنعام: 7]، بالإعراض عن الحق { إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } [الأنعام: 7]؛ لأن الله تعالى قد أعمى أبصارهم التي يبصرون الحق بها فما ازدادوا من ظهور الآيات إلا تمادياً في الباطل وإنكاراً على الحق، { وَقَالُواْ لَوْلاۤ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ } [الأنعام: 8]، وهذا الاعتراض من نتائج الإعراض وما تغني الشرح عن عمى بعد البصيرة { وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ ٱلأَمْرُ } [الأنعام: 8] أي: لقضي أمر النبوة بين الإنسان والملك وآل أمرها إلى الملك وليست النبوة من شأنه، وإنما خص بها الإنسان.
ولهذا قال: { وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ مَلَكاً } [الأنعام: 9]، يخاطبكم وتخاطبونه، { لَّجَعَلْنَٰهُ رَجُلاً } [الأنعام: 9]، لاحتياج أن لبسه لباس البشرية حتى تسمعوا خطابه وكلامه، وهو يكون واقفاً على ابتلاء الإنسان من أحوال البشرية، فيكلمهم من حيث ما هم عليه ويعالجهم بما يرى في صلاح حالهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم كالطيب، فينبغي أن يكون من جنس من يعالجه، كما قال تعالى:
{ { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } [إبراهيم: 4]، وقد منَّ الله تعالى على الخلق بأن جعل رسولهم من جنسهم، فقال تعالى: { { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [التوبة: 128]، ثم قال: { وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } [الأنعام: 9] يعني: إلينا الهداية والضلالة من لم تقدس سره لبس عليه أمره، فلا تغني الحجج إلى الأبد عمن عدم عناية الأزل.
ثم أخبر عن عاقبة أهل الاستهزاء والتكذيب بقوله تعالى: { وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ } [الأنعام: 10]، الآيتين والإشارة فيهما أن الاستهزاء من نسيم النفوس المتمرد بأرباب الدين من الأنبياء والأولياء في كل زمان وحين، كما قال تعالى لحبيبه ونبيه صلى الله عليه وسلم:
{ وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ } [الرعد: 32]، وذلك من عزة الدين وكمالية أرباب ولهوان الهوى ونقصانه أصحابه، فإن قطرة من الهوى تكدر بحراً من الصفاء فمن غلب عليه الهوى يستغرق في بحر الدنيا، فيعمى عن العواقب والعقبى، فلا يؤثر فيه كلام الأنبياء والأولياء ولا يزدادون منه إلا الطغيان والنقمة والاستهزاء.
{ فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ } [الأنعام: 10]؛ أي: أحاط بقلوبهم { مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } [الأنعام: 10]، من ظلمة الهوى وكدورته فبقيت محجوبة عن الله تعالى ومعرفته { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } [الأنعام: 11]، في أرض النفوس سير القدم التقوى ومخالفة الهوى إلى أن تبلغوا سواحل بحار القلوب، { ثُمَّ ٱنْظُرُواْ } [الأنعام: 11]، بأنوار الله المودعة فيها؛ لتشاهدوا وتعاينوا { كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ } [الأنعام: 11]، بالدين وأحوال أربابه، وهلكوا في بوادي القطيعة؛ إذ سافروا على أقدام الطبيعة.