التفاسير

< >
عرض

وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
١١٥
وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي ٱلأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ
١١٦
-الأنعام

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر المولى تأكيداً لهذا المعنى بقوله تعالى: { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } [الأنعام: 115]، إلى قوله: { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُعْتَدِينَ } [الأنعام: 119]؛ الإشارة فيها: إنه تعالى متكلم بكلام واحد من الأزل إلى الأبد، { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً }؛ يعني: بأمره ونهيه وحكمه وقضائه وقدره وإيجاده، وهي كلمة كن لِّما أراد أن يكون موجوداً فكان كما أراد، وأن يكون معدوماً فكان كما أراد؛ أي: طوعاً ورغبة في الكينونة كما أراد، كقوله تعالى: { { ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [فصلت: 11]، { وَعَدْلاً }؛ أي: عدل فيما قدر ودبر وقضي وحكم بالوجود والعدم والسعادة والشقاوة والرد والقبول والخير والشر والحسن والقبح والإيمان والكفر، فإنه أحسن كل شيء خلق، فكما أحسن خلق الحسن كذلك أحسن خلق القبيح؛ لأن القبيح في مقامه حسن كالحسن في مقامه، فإن قيل: هو قادر على أن يخلق أحسن مما خلق حسناً أو يخلق أقبح مما خلق قبيحاً، وإن يخلق خيراً مما خلقه خيراً وشراً مما خلقه شراً، قلنا: نعم، وهو كذلك إلى الأبد، وذلك إن أحسن كل شيء خلقه الله تعالى هو الإنسان؛ لقوله تعالى: { { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [التين: 4]، وكذلك خير شيء خلقه الله هو الإنسان عند كماله { أُوْلَـٰئِكَ هُمْ خَيْرُ ٱلْبَرِيَّةِ } [البينة: 7]، ثم أقبح ما خلقه الله تعالى وسيره أيضاً هو الإنسان عند فساد الاستعداد الفطري وكمال نقصانه؛ لقوله تعالى: { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } [التين: 5]، وقوله تعالى: { أَوْلَـٰئِكَ هُمْ شَرُّ ٱلْبَرِيَّةِ } [البينة: 6].
فاعلم أن لأهل الكمال ترقياً في كمال الحسن إلى الأبد، ولأهل النقصان ترقياً في كمال القبح إلى الأبد، فالله تعالى
{ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } [الرحمن: 29] يخلق أحسن مما خلق حسناً، ويخلق أقبح مما خلق قبيحاً إظهار القدرة الكاملة الغير المتناهية، { لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ } [الأنعام: 115]؛ أي: فيما قدَّر وقضى وحكم بإرادته القديمة وحكمته البالغة من أصناف المخلوقات وأنواع المخترعات، فليس شيء منها يدعو إلى التبديل من نقصان في خلقه؛ لأنه خلق تاماً كاملاً في رتبته، والزيادة على الكمال نقصان، { وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ } [الأنعام: 115]؛ لحاجة كل ذي حاجة يسمع استدعائهم لوجود الكمال قبل وجودهم، { ٱلْعَلِيمُ } [الأنعام: 115] بإيجاد وجود الكمال المستدعي كما يجب.
وفي قوله تعالى: { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي ٱلأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } [الأنعام: 116] إشارة إلى: إن في أمته من أن تطعه يردك إلى سبيل الله، كقوله تعالى:
{ { وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ } [النور: 54]، وذلك؛ لأن أكثر من في الأرض هم متَّبعوا أهوائهم، فمن يطيع أهل الأهواء اتبعهم، وقال تعالى: { وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } [ص: 26]، فمن يتبع أهل الأهواء كأنه اتبع الهوى فيضله عن سبيل الله.
{ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ } [الأنعام: 116]؛ يعني: أهل الأهواء بنوا أمر دينهم على الظنون الكاذبة، { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } [الأنعام: 116]، يكذبون في دعوى طلب الدين الحق، فإن سبيل الحق لا يسلك بالظن وإنما يسلك بالصدق والهدى.