التفاسير

< >
عرض

فَلَوْلاۤ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ
٤٣
فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوۤاْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ
٤٤
فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٤٥
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ ٱللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ مَّنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ
٤٦
قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَـٰكُمْ عَذَابُ ٱللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلظَّٰلِمُونَ
٤٧
-الأنعام

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

{ فَلَوْلاۤ } فهل لا { إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ } [الأنعام: 43]، وعلموا أن حقائق ألطافنا مودعة في دقائق صور قهرنا، وتحققوا أن درر محبتنا مستودعة في صداق شدائد بأسنا ومحبتنا، واستقبلوا بصدق الالتجاء وحسن التضرع في الدعاء لكشف ضراء النعمة وبلاء الغفلة { وَلَـٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ } [الأنعام: 43]، باتباع الهوى واستجلاء الدنيا واستيفاء لذاتها والتمتع بشهواتها، فوجد الشيطان فرصة التزيين والأعداء ومجال الحث والإغراء { وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ } [الأنعام: 43]، من متابعة الهوى والخواص على الدنيا وتكذيب الرسل والإعراض عن الحق { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } [الأنعام: 44]، من معارضة البأساء والضراء، فإنها تذكر أيام الرجاء وتعرف قدر الصحبة والنعماء، وهذا يؤدي إلى رؤية النعمة ويوجب الشكر عليها، والشكر يدل على رؤية النعم في المنعم فكلما كانت القساوة موجبة لنسيان النعماء ومانعة لقبول دعوة الأنبياء { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ } [الأنعام: 44]، من البلاء في صورة النعماء لأرباب الظاهرة بالنعمة من المال والجاه والقبول والصحة وأمثالها، ولأرباب الباطن النعمة الباطنة من فتوحات الغيب وإراءة الآيات وظهور الكرامات ورؤية الأنوار وكشف الأسرار والأشراف على الخواطر وصفاء الأوقات ومشاهدة الروحانية وأشباهها مما يربي بها أطفال الطريقة فإن كثيراً من متوسطي هذه الطائفة تعتريهم الآفات في أثناء السلوك عند سآمة النفس من المجاهدات وملالتها من كثيرة الرياضات، فيوسوسهم الشيطان وتسول لهم أنفسهم أنهم قد بلغوا في السلوك رتبة قد استغنوا بها عن صحبة الشيخ وتسليم تصرفاته، فيخرجون من عنده ويشرعون في الطلب على هواء نفوسهم فيقعون في ورطة الخذلان وسخرة الشيطان، فيريهم الأشياء الخارقة للعادة وهم يحسبون أنها من نتائج العبادة { حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوۤاْ } [الأنعام: 44]، وغرهم بالله الغرور { أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً } [الأنعام: 44]، بفقد الأحوال على سوء الحال، فلا يبقى لهم إلا القيل والقال والدعوى المحال { فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } [الأنعام: 44] متحيرون في تيه الغرور { فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } [الأنعام: 45] على أنفسهم بالإعراض والاعتراض { وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الأنعام: 45]، على إظهار اللطف وإظهار القهر لأصحابه؛ ليعرفه العارفون بصفات اللطف والقهر وإن الكل من عند الله.
ثم أخبر عن آثار لطفه وقهره بقوله تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ ٱللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ } [الأنعام: 46]، إلى قوله:
{ { يَفْقَهُونَ } [الأنعام: 65]، الإشارة فيها أن الله تعالى أعطى عموم الخلق السمع والأبصار والأفئدة التي بها يفقهون كلام الحق وبها يسمعون وبها يبصرون بالحق، ثم قال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ ٱللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ } التي أعطاكموها { وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ مَّنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ } [الأنعام: 46]؛ يعني: هو الذي يأخذكم وهو الذي يرد إليكم مرة أخرى إن شاء وكيف شاء ثم قال تعالى: { ٱنْظُرْ } [الأنعام: 46]، يا محمد { كَيْفَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ } [الأنعام: 46] وهو السمع والأبصار الحقيقي عن الكفار ويأخذها { ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ } [الأنعام: 46]، يعرضون عن الحق بعد ذلك.
ثم عمَّ الخطاب وقال تعالى: { قُلْ } [الأنعام: 47] يا محمد { أَرَءَيْتَكُمْ } [الأنعام: 47]، يا أهل السعادة ويا أهل الشقاوة { إِنْ أَتَـٰكُمْ عَذَابُ ٱللَّهِ } [الأنعام: 47]، من الآفات والحوادث والأمراض، وغير ذلك ابتلاء وامتحاناً { بَغْتَةً } [الأنعام: 47]، يعني: من غير سبب ظاهر مثل أخذ السمع والأبصار والختم على القلوب { أَوْ جَهْرَةً } [الأنعام: 47]؛ يعني: بسبب ظاهر مثل الفسوق والعصيان والكفران { هَلْ يُهْلَكُ } [الأنعام: 47]؛ يعني: ربما ابتليتهم به { إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلظَّٰلِمُونَ } [الأنعام: 47]، الذين ظلموا أنفسهم يصرف استعداد عبودية الحق في متابعة الهوى، وهي غير موضعه ويثبت عليها، فإن من ابتلى بنوع من البلاء تاب ورجع منه فهو غير هالك على الحقيقة.