التفاسير

< >
عرض

وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَٰبٍ مُّبِينٍ
٥٩
وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّٰكُم بِٱلَّيلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
٦٠
وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ
٦١
ثُمَّ رُدُّوۤاْ إِلَىٰ ٱللَّهِ مَوْلاَهُمُ ٱلْحَقِّ أَلاَ لَهُ ٱلْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ ٱلْحَاسِبِينَ
٦٢
قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ
٦٣
-الأنعام

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن مفاتيح الغيبة وأنها عنده بلا ريب بقوله تعالى: { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ } [الأنعام: 59]، الإشارة فيها أن الله تعالى جعل لكل شيء شهادة تناسب ذلك الشيء وغيباً مناسب له، وجعل لمغيب كل شيء مفتاحاً يفتح به باب غيب ذلك على شهادته فيفصل ذلك الشيء كما أراد الله في الأزل وقدره، وعنده مفتاح الغيب: { لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } [الأنعام: 59]؛ لأنه لا خالق إلا هو وليس لنبي ولا لولي مدخل في هذه المفاتيح ولا في استعمالها؛ لأنه مختص بالخالق فحسب ما ضرب لك مثلاً يدركه به هذه الحقيقة، وذلك مثل نقاش الصور، فإن لكل صورة فيما ينقشها شهادة وهي هيئتها، وغيب هو علم التصوير، ومفتاح يفتح به باب علم التصوير على هيئة الصورة لتنفعل الصورة ثابتة في ذهن النقاش، وهو العلم بيد النقاش لا مدخل لتصرف غيره فيه، فإن الله تعالى هو النقاش المصور والصور هي صورة المكونات المختلفة الغيبية والشهادية، وشهادة كل صورة منها خلقها وكونها وغيبها علم خلقها وتكوينها، وقلم تصويرها الذي هو مفتاح ويفتح به باب علم تكوينها على صورتها وكونها هو الملكوت فبقلم ملكوت كل شيء يكون كل شيء، وقلم الملكوت بيد الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: { { فَسُبْحَانَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [يس: 83]، فكما أن الشهاديات مختلفة فالملكوتيات مختلفات، ولكل شيء من الجماد والنبات والحيوان والإنسان والملك غيب مناسب لصورته، ولهذا جمع المفاتح ووحد الغيب، وقال { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ } هو علم التكوين وهو واحد في جميع الأشياء وفي الملكوت كثرة كما في الصور، فافهم جيداً.
{ وَ } بعلم التكوين { يَعْلَمُ مَا فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ } [الأنعام: 59]؛ لأن به كون البر وهو عالم الشهادة، والبحر وهو عالم الغيب والملكوت يدل على هذا المعنى، قوله عالم الغيب والشهادة وبهذا العلم { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا } لأنه مكونها ومثبتها وسقطها { وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلأَرْضِ } [الأنعام: 59]، أرض القلب وظلمات صفات البشرية إلا وهو يركبها ويعلم كمالها ونقصانها { وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ } [الأنعام: 59]، الرطب المؤمن واليابس الكافر.
وأيضاً: الرطب العالم واليابس الجاهل.
وأيضاً: الرطب العارف واليابس الزاهد،.
وأيضاً: الرطب أهل المحبة واليابس أهل السلوة.
وأيضاً: الرطب صاحب الشهود واليابس صاحب الوجود.
وأيضاً: الرطب الباقي بالله واليابس الباقي بنفسه { إِلاَّ فِي كِتَٰبٍ مُّبِينٍ } [الأنعام: 59]، وهو أم الكتاب.
ثم أخبر عن فعله وفضله بقوله تعالى: { وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّٰكُم بِٱلَّيلِ } [الأنعام: 60]، الآيتين الإشارة فيهما أن من فضل الله والرضا مع عباده أن يتولى مصالحهم بنفسه ليلاً ونهاراً، فقال تعالى: { وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّٰكُم بِٱلَّيلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ } [الأنعام: 60]، وهذا تعريف نفسه بنفسه؛ يعني: فإن لم تعرفوني فأنا الذي يتوفاكم بالليل لاستراحة نفوسكم وتقوية قوتكم وسلامة حواسكم من الكلالة والطبيعة من الملالة، ويريكم في المنام ما تكسبون بالنهار، وهذا من الجنس الذي لا يعلمها إلا الله، كما قال تعالى:
{ { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ } [لقمان: 34]، فيريكموه الله من فضله معكم، ولتعلموا أنه يعلم بالليل ما تكسبون غداً بالنهار، وهل بعد الغد سنين كثيرة { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ } [الأنعام: 60]، عن نوم الغفلة، فإن أكثر انتباه الخلق ورجوعهم إلى الحق وحرصهم على طلب الدين وترك الدنيا إنما يكون بالرؤيا الصالحة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة" .
وقال: "ما بقي من النبوة إلا المبشرات يراها المؤمن أو ترى له" فعلى هذا المعنى الهاء في قوله تعالى: فيه كناية عن المنام بالليل { لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى } [الأنعام: 60]؛ يعني: بعد الانتباه والحرص على الطلب يقضي أجل أيام الفراق المسمى بينكم وبينه { ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ } [الأنعام: 60]، بجذبة إلى ربكم { ثُمَّ يُنَبِّئُكُم } [الأنعام: 60]، عند الوصال ونيل الوصال بنور الجمال { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الأنعام: 60]؛ يعني: يتحقق لكم أن استعمال الشريعة متابعة النبي صلى الله عليه وسلم كان السير إلى الله تعالى وصورة جذبات الحق، فافهم جيداً.
ثم أخبر عن قهره بالعدل لمن لم يكن قابلاً للفضل بقوله تعالى: { وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } [الأنعام: 61]، إلى قوله: { وَهُوَ أَسْرَعُ ٱلْحَاسِبِينَ } [الأنعام: 62]، بالإشارة فيها أن القهر من وصف الجلال هو مشرب الأولياء، فيعبر عنه بالقاهرية، وما كان وصف الجبروت فهو مشرب الأعداء فيعبر عنه بالقهارية كقوله تعالى:
{ لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [غافر: 16]، وقال تعالى من وصف الجلال { وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } [الأنعام: 18]؛ أي: يقهر نفوس العابدين بخوف عقوبته، ويقهر قلوب العارفين بسطوة شهود جماله، ويقهر أرواح المحبين بكشف سلطان جماله والمحب بلا روح لاستيلاء سلطان أفعاله والعارف بلا قلب لاستيلاء سلطان جماله والمحب بلا روح لاستيلاء كشف جلاله عليه والواصل مستهلك في عين حقيقته، فمتى أراد الحق تعالى تكميل عبد من عباده يرسل عليه حفظه من صفات قهره، كما قال تعالى: { وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً } [الأنعام: 61]، حتى لو أراد نفسه الخروج عن قيد مجاهدتا قهرته سطوات العتاب، فردته إلى بذل الجهد ومتى أراد قلبه فرجة من مطالبته القربة قهرته صدمات الهيبة فردته إلى توديع البهجة، ولو أراد روحه استرواحاً من الحرمات قهرته بواردات التجلي فردته إلى بذل المبهجة، كما قال تعالى: { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ } [الأنعام: 61] الموت يعني: الفناء عن أوصاف الوجود { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } [الأنعام: 61]، صفات قهرنا { وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } [الأنعام: 61]، في إفناء الأوصاف فشتان بين عبد مقهوراً بأفعاله وبين عبد مقهور بجماله وجلاله { ثُمَّ رُدُّوۤاْ إِلَىٰ ٱللَّهِ } [الأنعام: 62]، يعني: أهل الفناء يردون إلى بقاء الله وهم الباقون بالله { مَوْلاَهُمُ ٱلْحَقِّ } [الأنعام: 62]، أي قائمون { أَلاَ لَهُ ٱلْحُكْمُ } [الأنعام: 62]، فيما يتولى مصالح دينهم ودنياهم بلا هم { وَهُوَ أَسْرَعُ ٱلْحَاسِبِينَ } [الأنعام: 62]، فيما يحاسب أمور عباده محاسبة لا تكون في حسابهم وحسابهم.
ثم أخبر عن إنجاء الأولياء بقوله تعالى: { قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ } [الأنعام: 63]، إلى قوله وسوف تعلمون الإشارة فيها أن البر والأجسام والبحر والأرواح فالأرواح، وإن كانت نورانية إلى الأجسام ولكن بالنسبة إلى الحق تعالى، ونور الإلهية ظلمانية، كما قال: "إن الله هو الحق خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره" فمعناه إذ خلقتكم في ظلمة الخلقية، فمن ينجيكم من ظلمات بر البشرية وظلمات بحر الروحانية { تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً } [الأنعام: 63]، أي بالجسم { وَخُفْيَةً } [الأنعام: 63]، أي بالروح { لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـٰذِهِ } [الأنعام: 63]، الظلمات { لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ } [الأنعام: 63]، على نعمة النجاة فلما لم يكن أحد نجيهم من الظلمات غير الله.