التفاسير

< >
عرض

مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ
٥
قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ هَادُوۤاْ إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٦
وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ
٧
-الجمعة

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

{ مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا } [الجمعة: 5] مثل القوى النفسية المؤمنة باللطيفة السرية، وقبولهم الوارد السري من حيث الظاهر، ولم يحملوا حقيقة الوارد من حيث المعنى، وترك العمل بما في ضمن الوارد { كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً } [الجمعة: 5] يعني: يحملون الأسفار من حيث الظاهر، وهم جاهلون في باطنه غافلون عن حقيقة وروده، فيجب التعزية لنفسهم على حفظ كلمات القرآن المقتصرين على حفظه وقراءته والتاركين لفهمه، والعمل به، وعلى السالك الذي يرد عليه الوارد، وهو يتكلم بالوارد ولا يعمل به، وعلى اللطيفة المبلغة التي تأمر القوى عن الاجتناب عن الهوى، ويلقي الشيطان في أمنيته أن يتكلم بشرب نفسه، وهو طبعه ويظن أن نفسه مطمئنة لا يضرها الاشتغال بصحبة الخلق، والتوسع في المعيشة، ولا يذكر حال أشرف الخلق وأحبهم إلى الله محمد صلى الله عليه وسلم أنه صلى حتى تورمت قدماه بعد أن غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وما شبع في مدة حياته من خبز الشعير إلا مرتين، وبعده حال سيد الأولين علي بن أبي طالب رضي الله عنه على مدين ونصف من السويق الشعير، الغير متحول في رمضان الذي استشهد فيه حتى وزنوا ما في جرابه بعده، وهو رضي الله عنه استشهد صبيحة يوم الثالث والعشرين من رمضان كان منا، ونصف من قالوا يجب على السالك ما دامه في قيد الحياة الدنيوية؛ الاحتراز عن الطعام والكلام والمنام { بِئْسَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } [الجمعة: 5] من القوى المكذبة القالبية والنفسية { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } [الجمعة: 5] الذين ظلموا أنفسهم بكسبهم السيئات، وتكذبهم اللطائف المنذرة { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ هَادُوۤاْ إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [الجمعة: 6] في هذه الدعوى يعني: أيتها القوى المؤمنة باللطيفة السرية من حيث الظاهر، وهي القوى التي إذا اشتغل صاحبها بالسلوك، وشاهد أنوار السر والمعارف السرية آمنت بالآيات السرية، واطمأنت بأنوارها، وظنت أن ليس وراء العبادات قربة، ورجعت إلى عالمها واشتغلت بشهواتها التي تركتها وقت سلوكها وقالت: إني وصلت فيما يضرني الاشتغال بشهوات النفس يعتريها العجب والغرور من المعارف السرية والأنوار التي تشاهدها حتى يستدرجها الحق من حيث لا يعلم، ويجعل تلك المعارف والأنوار { كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ } [النور: 39] وناقشها في المحاسبة وليس لأحد من أهل الآخرة عذاب أشد من عذابها نعوذ بالله منه، ونسأل الله العافية، وحسن المنقلب والمآب والثبات على طاعة الله، وعبوديته على وفق متابعة نبيه محمد سيد الأحباب صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه.
وإذا أودعتها الخفية إلى الترقي إلى عالم الخفي والحق أبت دعوتها خوضاً على تركها الشهوات بعد أن قاستها في السلوك السري ورجوعها إلى مألوفات طبعها، وقالت: أنا وصلت إلى حضرة الله ولينا وهو حسبنا لا يحتاج إلى دليل غيره في طريقنا، فيقول الله تعالى في كتابه لحبيبه: قل لهم { فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [الجمعة: 6] في محبتنا عاشقين جمالنا يعني: اشتغلوا بالمجاهدة ليحصل لكم الموت الاختياري { وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ } [الجمعة: 7] يعني: لا يشتغلون بالمجاهدة ولا يجتهدون في تضعيف النفس، ولا يشتهون أن يكشف غطاؤهم بما كسبت أيديهم من الاشتغال بملاذهم العاجلة وشهواتهم الهوية { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ } [الجمعة: 7] الذين ظلموا على قواهم بعد اشتغالهم بذكر الله، وتحصيل الاستعداد السري بالرجوع إلى مألوفات طبعهم، وتركهم السلوك والذكر.