التفاسير

< >
عرض

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١
هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٢
خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ
٣
يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
٤
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٥
-التغابن

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

يا طالب معرفة تسبيح أهل السماوات والأرض: اعلم أنهم يسبحون الله بألسنة أحوالهم كلهم على قدرهم مما وصل إليه [من] رشاشة نور جوده الذي صار به موجوداً، وظهر من كتم العدم إلى صحراء الشهادة، وبه قائماً، وبه حياً، وبه باقياً، وبه عارفاً، واقرأ ما يقول الله تعالى في كلامه القديم، وكتابه الكريم - متدبراً مرتلاً لتفهم حقيقة تسبيح ما في السماوات وما في الأرض حيث يقول -:
{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } [التغابن: 1]، يعني: ينزهونه عن أن يكون في السماوات والأرض؛ لأنه كان قبل خلق السماوات والأرض، وينزهونه عن أن يعزب عنه مثقال ذرة في الأرضين السفلى والسماوات العلى،
{ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } [سبأ: 2] { لَهُ ٱلْمُلْكُ }، في الشهادة خلقاً، { وَلَهُ ٱلْحَمْدُ } [التغابن: 1]، في الملكوت حقاً، يعني: مع كمال قدرته ما تصرف في ملكه إلا حكمة وعدلاً، { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [التغابن: 1]، فيا أيها السالك ينبغي أن تعلم أنه خلق في أرض بشريتك قوى قابلة مظاهرة لصفة ربوبيته، وخلق سماوات روحانيتك قوى فاعلة مظاهر الصفة فاعلية، وألّف ازدواجاً بين السفليات والعلويات بحكمته؛ ليظهر لطيفة مجتمعة فيها القوى القابلة والفاعلة لتكون خلفته لذاته وصفاته وفي أرضه وسمائه، وسَبَّحت له بجميع الألسنة والقوى المتفرقة.
واعلم أن إشارته في قوله: { لَهُ ٱلْمُلْكُ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ } إشارة إلى الملك والملكوت؛ لأن موجب إظهار الملك هو الحمد، والحمد ملكوتي، والحميد جبروتي، والذات التي [لها] صفة الحميد لا هويته، وفي كشف هذا السر يفتح باب إلى حد القرآن [فسددته].
{ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ } [التغابن: 2]، من المفردات، ثم جمع أفراد المركبات السفلية والعلوية في قالب الإنسان وروحه، وخلقه
{ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [التين: 4]؛ { فَمِنكُمْ كَافِرٌ } [التغابن: 2]، مظهر لقهره، { وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } [التغابن: 2]، مظهر للطفه، [و]القوى الأمارة الكافرة والقوى اللوامة المؤمنة جمعت في وجود بني آدم بقدرته؛ فمن اقتدت باللطيفة المبلّغة وزكت قواها من رذائل الأخلاق المظلمة الترابية، والصفات المردية المائية، والخصائل المعنوية الهوائية، والدعاوية المهلكة النارية، وصفت أعمالهم عن قاذورات اجتماع هذه العناصر الغير المزكية، وطهرت باطنها عن جنابة محبة الدنيا الدنية؛ صارت لطيفة باقية منعمة أبد الآباد، { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [التغابن: 2]، من الخير والشر، والسعيد سعيد في الأزل، والشقي شقي لم يزل.
قال الشيخ أبو يزيد البسطامي قدس سره: كل الناس يخافون من الخاتمة، وإنا أخاف من السابقة، جف القلم بما هو كائن،
{ مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ق: 29] انتهى.
وكيف يتصور الظلم ونحن نغوس أصل العنب في البستان، ونسقيه من الماء ونربيه حتى يثمر العنب ونجنيه، ونعصره ونأخذ منه صفاؤه، ونجعل منه الحلاوة، ونهرق على وجه الأرض العصارة المكدر وهو يقول بلسان الحال - إذا [نظر] إلى وجهها الأسود بإدراكها الذي حصل لها في العروج طوراً طوراً حتى وصل إلى [العينية بالرائية] -:
{ يٰلَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً } [النبأ: 40] كما كنت في الأرض قبل التركيب والتربية والعروج، ولما كان إلى الشعور على سوادّية على شقاوتي، وعلى أني مستحق تحت قدم الخلق، وما كان هذا ظلماً بنسب إلى الدهقان؛ فكيف يتصور أنه تعالى ظلم على أحد؟! فكما كان استعداد كل أحد وحظه واحد من صفات لطفه [أو] قهره وقت التربية ظهر في العصر صفاء، وفي العصارة كدر، وتحقيق هذا السر يختص بمطلع القرآن؛ فافهم أن الله تعالى خلق الخلق بحكمته، وربّاهم بصفات قهره ولطفه، وأرسل إليهم الرسول عليه السلام ليهديهم إلى سبيل التصفية والتنقية والتزكية والتربية؛ فمن كان صالحاً للتربية صدق الرسول عليه السلام واشتغل بما أُمر به، ومن كان فاسداً كذب الرسل، وأقام على طبيعته المكدرة، و { مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } [المائدة: 99]، ولا يقدر أحد أن يهدي أحداً بغير إذن الله، كما يقول في كتابه: { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [القصص: 56]، ويقول: { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ } [النمل: 80]، وما أنت إلا نذير.
فيا أيتها اللطيفة المنذرَة: أنذري جميع القوى عشيرتك الأقربين أولاً، ثم أنذري من كان حول مكة وجودك من الأقربين والأبعدين، ثم أنذري جميع القوى التي في ملكك وملكوتك من القوى الترابية الأنسية ومن القوى النارية الجنية، لأنك أرسلت إلى كافة الخلق بشيراً ونذيراً.
{ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ } [التغابن: 3]، يعني: خلق سماوات روحانيتك اللطيفة، وأرض بشريتك الكثيفة، من لطفه وقهره بالحق؛ ليظهر منها لطيفة مستحقة لمظهرية ذاته، والمفردات ما كانت مستحقة لمظهرية ذاته؛ لأن المفردات مظاهر [لطافات] أفعاله، والمركبات السفلية مثل المعادن والنبات والحيوان ما كانت مستحقة لمظهرية ذاته أيضاً؛ لعدم اللطائف العلوية فيها، والمركبات العلوية قوى فاعلات، واللطائف السفلية قوى قابلات؛ فلأجل هذا جمعت في [نشأة] الإنسان صارت مظاهر لذاته، كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:
"خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ" ، ولهذا قَبِلَ حمل الأمانة { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } [التغابن: 3]، كما بينا { وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } [التغابن: 3]، بعد خراب البدن، واكتساب استعدادات المظهرية مراجع الإنسان إلى حضرته.
{ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [التغابن: 4]، كما أشرنا إليه { وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } [التغابن: 4]، لأنه معهم، ويطلع على قوى سرهم وقوى علانيتهم، { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } [التغابن: 4]، لأن فساد عالم كونك وصلاحه مربوط بسماء الصدر التي هي سماء الدنيا، وهي ذات البروج.
{ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ } [التغابن: 5]، من قوى القالبية الكافرة؛ { فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ } [التغابن: 5]، يعني: جزاء أعمالهم، والعذاب الذي لحق بهم من مشتهياتهم العاجلة، { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [التغابن: 5]، مدخر في دار الآخرة بعد خراب البدن.