التفاسير

< >
عرض

تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١
ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ
٢
ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ
٣
ثُمَّ ٱرجِعِ ٱلبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ ٱلبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ
٤
وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ وَجَعَلْنَٰهَا رُجُوماً لِّلشَّيَٰطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ
٥
-الملك

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

يا طالب سر الملك والملكوت اعلم أن سرهما في يدي مالك الملك والملكوت، كما يقول في كتابه الكريم: { بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } [يس: 83]، و{ تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ } [الملك: 1]، والملك إشارة إلى: عالم الناسوت، واليد إشارة إلى: عالم الجبروت، { وَهُوَ } إشارة إلى: عالم اللاهوت، فتبارك وتعالى الذي بيده الملك والملكوت أن تشبه يده الأيدي، وتنزهت وتقدست ذاته أن تكون معطلة عن الصفات الحسنى؛ ولكن ينبغي أن يكون السالك سنياً لا ظهرياً، ولا باطنياً، ولا مشبهياً، ولا معطلياً ليعرف سر اليد المذكورة في كلام الرب، وسر ما قال سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الطويل: "كلتا يدي الرحمن يمين" ، ولا يمكن لك المعرفة بهذا الحديث إن كنت جامداً بليداً؛ فأشعل نار الذكر حتى تذهب جمودتك وبلادتك، وانظر بعد ذلك في بدائع الصنائع لتفهم ما فيه من حقائق الدقائق، ثم جئ حتى أقول معك بعض أسراره مما يتعلق ببطن القرآن.
واعلم أن اليمين واليسار يطلق في عالم الجهات، ولا جهة في عالم الحق، ولا زمان، ولا مكان، ولا خلاء من الوجود، ولا ملاء من الجسم الكلي، وكل شيء يرى بعين الحس في الملك فتبصره ببصيرة العقل في الملكوت قائم به، وهو موجد حياة كل الأحياء منه، وقيام كل الأشياء به،
{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [القصص: 88]، و { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [الرحمن: 26] ويبقى وجهه.
وإطلاق اليمين في الحديث كان لأجل اليمين والبركة، وإظهار سر التوحيد، وإشارته إلى "كلتا يديه" إشارة إلى: يدي الظاهرة والباطنة؛ يعني: بيد إرادته الباطنة باطن ملكوت كل شيء، وبيد قدرته الظاهرة ظهور الملك، وبعد هذا تحرك سلسلة حد القرآن مما أمرت بستره فأدرج.
واعلم أنه على كل شيءٍ قدير كما يقول في كتابه الكريم: { تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الملك: 1] يقدر على الإبداع، والإيجاد، والإبقاء، والإفناء، { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [الملك: 2]، ذكر الموت والحياة؛ لأن القدرة فيهما أظهر، وقدم الموت على الحياة؛ لأنه [سابقتكم]
{ أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ } [البقرة: 28]؛ يعني: كنتم جاهلين فأحياكم بالعلم، وكنتم في بطون أمهاتكم موتى فأحياكم بنفخ الروح، وكنتم موتى في القلب فأحياكم بنور الإيمان، وكنتم موتى في البرزخ فأحياكم يوم القيامة، وكنتم موتى في النكرة فأحياكم بالمعرفة، وكنتم موتى من مشاهدة وجه الرب فأحياكم بمشاهدته للابتلاء حتى تتم مظاهر لطفه وقهره، وحتى يرى { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [الملك: 2] في الاختيار الحياتي الذي أعطاه ربكم لكم لتكونوا خلاف الأرض، أتشتغلون في عالم اختياركم بذكر مولاكم؟ أم تبتغون هواكم وتغفلون عن ذكر مولاكم؟ أتتركون الدنيا الفانية للآخرة الباقية؟ أم تشتغلون بالدنيا لاستيفاء حظوظكم العاجلة الشهوية؟ أم تشتغلون بتزكية النفس عن الكدورات الحاصلة لها في دار الفناء؟ أم تتركونها مكدرة مظلمة صاعد عليها كل ساعة دخان الهوى؟ أتجتهدون في تصفية السر وتحلية الروح بالأخلاق والصفات الحسنة؟ أم تتركونها ملوثة بقاذورات الأخلاق الشيطانية والصفات البهيمية؟ أتقبلون على تصقيل القلب ليكون مرآة لوجه الرب وهو المقصود من إيجاد الموجودات؟ أم تعرضون عنه ليتأثر فيه طبع [الطغي] { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ } [الملك: 2]؛ يعني: هو غالب على أمره أن يعذب المقصر في تقويم القالب وتصقيل القلب وإقامة المرآة محاذاة وجه الرب في عالم التوجه، غفور لمن يقوِّم القالب على وفق ظاهر الشرع بالسياسة، وتصقيل القلب على قانون حكمة الطريقة بالطهارة، ويقيم المرآة المقوِّمة المصقلة محاذاة وجه الرب بالطهارة، والله تعالى أرسل جميع الرسل إلى الخلق ليعلمهم بالسياسة أمر التقويم، وبالطهارة أمر التصقيل، وبالعبادة أمر التوجه؛ لترى في المرآة ذاته وأفعاله وآثاره كما يقول تعالى: "كنت كنزاً مخفياً فأردت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف" .
{ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ * ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً } [الملك: 2-3]؛ أي: سماوات أطوار القلب طبقاً طبقاً في كل واحدة منها حكمة خاصة، { مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ } [الملك: 3]؛ يعني: لا يفوته، وإضافة الخلق في هذا المقام إلى الرحمن كانت من سر فينبغي ألاَّ يغفل عنه، وهو أنه بعد استوائه على العرش واستواء الخليقة على عرش القالب الجسماني خلق سماوات القلب والصدر، والسماء الروحانية، والأرض القالبية، { كَانَتَا رَتْقاً } [الأنبياء: 30] من قبل مقتضاهما عند استواء الرحمن على عرش الروح، واستواء خليقته على عرش القالب، وفي هذا سر يتعلق بحد القرآن مما ليس هو من نفس المستمعين.
{ فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ } [الملك: 3]؛ يعني: كرر النظر واعتبر بنظر الاعتبار هل ترى في خلقه من نقصان من الشوق والصدع أو الخرق؟ { ثُمَّ ٱرجِعِ ٱلبَصَرَ كَرَّتَيْنِ } [الملك: 4] كرة في ملكه، وكرة في ملكوته، وكرة بعين الحس، وكرة ببصيرة العقل حتى يقع نظرك في عالم ملكه وملكوته على شيء، يقول عقلك المضل وقواك الكافرة وهويتك المدعية للإلهية: ينبغي أن يكون هذا على خلاف ما خفلناه وسويناه، فيا أيها الجاهل الضال لا تتفكر في قبضتك وأنا ملك [الملوك] حتى ترى حكمة الحكيم إن لم تكن ممن يتفكر في ملكه العظيم، وتعلم أن لو يزيد أنملة على الأنامل الخمس كيف يكون قبيحاً؟! بحيث يحكم عقلك على قطها، ولو تنقص أنملة من الأنامل كيف تستحي منها وتمد يدك في كمك حتى لا يطلع على نقصانك أحد؟! وإن كانت الأنامل متصلة بعضها ببعض لا يمكن لك القبض والبسط، وإن كانت الأنامل مستوية لا يتصل بعضها ببعض وقت الضم، وعجائب القبضة الواحدة التي هي عضو جسماني من أعضائك، وعروقها، وأغصانها، وروابطها الظاهرة، وأظافرها، وكيفية تحليل الخلط السوداني من رؤوس الأظافر ينبغي أن تقطع في كل شهر مرتين، وكيفية عضلاتها وروابطها الباطنة إلى حقيقة صفة القدرة، واتصال القدرة بالإرادة، وتعلق الإرادة بالعلم الروحاني، ثم تعلق العلم بالقلم الذي في قبضة الحق، واتصال حقيقة القبضة الحقية باليد المذكورة في كلام المجيد وهلم جرا إلى الدقائق الجبروتية المتصلة بحقائق اللاهوتية مما لا يحصى أبد الدهر في ظنك بعجائب ملكه وملكوته، وجبروته ولاهوته، ومع هذا تدعي الربوبية الإلهية، وتعجز عن إدراك سر عضو من أعضائك أيها المعاند الجاهل.
{ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ ٱلبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } [الملك: 4]؛ يعني: ينقلب نظرك صاغراً ذليلاً عاجزاً، وهو كليل منقطع عن النظر على نقصان في ملكه وملكوته، { وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ } [الملك: 5]؛ يعني: زينا سماء الدنيا بمصابيح خواطر القدر في آفاق عالم الإنسان، وهو مظهر السر في أنفس عالم الإنسان السرية والروحية والخفية، والقالب الذي هو عالم الكون، والفساد مظهر لسماء الدنيا الذي هو ذات البروج، ولا تغلظ بأنا بينا في الواردات أن القلب أعلى من الصدر، ويشاهد الصدر إلى القلب أقرب، وتفكر في إحاطة جسيمة الصدر بالقلب في عالم الشهادة كما تشاهد إحاطة فلك الثوابت بالأفلاك السبعة؛ لئلا تغلط ونحن في هذا المقام ندخل في طريق الجسمانيات { وَجَعَلْنَٰهَا رُجُوماً لِّلشَّيَٰطِينِ } [الملك: 5]؛ يعني: جعلنا الخواطر السرية والروحية والخفية على سماء الصدر حفظة؛ ليرجم بها الشياطين إذا أرادوا أن يوسوسوا في الصدر ويسترقوا السمع { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ } [الملك: 5]؛ يعني: للقوى النفسية التي يمددها بقدر الشيطان التجاوز عن عالمها والصعود إلى سماء الصدر.