التفاسير

< >
عرض

يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَٰهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
١٨٧
قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوۤءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
١٨٨
هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ دَّعَوَا ٱللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ
١٨٩
فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا فَتَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
١٩٠
أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ
١٩١
وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلآ أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ
١٩٢
-الأعراف

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن سؤالهم من سوء حالهم بقوله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَٰهَا } [الأعراف: 187] إلى قوله: { يُؤْمِنُونَ } [الأعراف: 188] الإشارة فيها: أن الساعة عبارة عن: الساعة التي يظهر الله تعالى فيها آثار الصفة القهارية؛ لإفناء عالم الصورة وهو الملك ظاهر الكون كقوله تعالى: { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ } [غافر: 16] حين تطوى السماوات وتبدل الأرض ولا يبقى من الملك وأهله داعٍ ولا مجيب، فيجيب هو سبحانه ويقول: { لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [غافر: 16]، وفي قوله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَٰهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [الأعراف: 187] دليل على أن للساعة ثقلاً من ظهور صفة القهر يضيق منها نطاق طاقة السماوات والأرض، وأنه مما استأثر الله به نفسه، وأنها هي الساعة التي يموت فيها الخلق؛ لأنه يقول: { لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً }.
وفي قوله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } [الأعراف: 187] معنى آخر من الإخفاء: وهو المنع، منعت علمها عنهم، ومنه في حديث خليفة كتبت إلى ابن عباس أن يكتب إلي ويخفي عني؛ أي: يمسك عني بعض ما عنده مما لا أحتمله وعطس رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فوق ثلاث فقال له: خفوت؛ أي: منعتنا أن نشمتك بعد الثلاثة، والخفو: المنع، فقال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ } [الأعراف: 187] لا عندي، { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [الأعراف: 187] أن علمها عند الله وليس عندك، يدل عليه قوله تعالى: { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً } [الأعراف: 188] بمشيئة حادثة، { إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ } [الأعراف: 188] في الأزل بمشيئة القديمة أن يكون لي أو يملكني ما شاء لي تمليكه، { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ } [الأعراف: 188]؛ يعني: ولو كنت كذلك، { لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ } [الأعراف: 188] من الحياة الأبدية ورفع الحاجات البشرية والأحكام الإلهية، { وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوۤءُ } [الأعراف: 188]؛ أي: الموت والحاجات، { إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ } [الأعراف: 188] لمن كان حياً بالحياة الحقيقية فيسمع كلامي وينتفع بإنذاري فيؤثر ما يبقى على ما يفنى، { وَبَشِيرٌ } [الأعراف: 188] بما فضل الله به على خواص عباده من الدرجات العلية المقامات السنية والكرامات والقربات، { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [الأعراف: 188] بها والسعي في تحصيلها، فإن الإيمان الحقيقي هو: السعي في طلب ما آمنوا به والإتيان بما أمروا به والانتهاء عما نهوا عنه.
ثم أخبر عن الذي عنده علم الساعة بقوله تعالى: { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } [الأعراف: 189] إلى قوله:
{ فَلاَ تُنظِرُونِ } [الأعراف: 195] والإشارة فيها: أن في قوله تعالى: { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ }؛ تعريف نفسه بالخالقية والقادرية على أنه يخلق النفوس كلها من نفس واحدة وهي: نفس آدم عليه السلام، وفيه يشير إلى أن النفوس كما خلقت من نفس واحدة فكذلك الأرواح خلقت من روح واحدة وهو: روح محمد صلى الله عليه وسلم، فكان هو أبا الأرواح كما كان آدم أبا البشر لقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا لكم كالوالد لولده" وقوله صلى الله عليه وسلم: "أول ما خلق الله روحي" فإن أول كل نوع هو المنشأ منه ذلك النوع من الحيوانات والنبات بقوله تعالى: { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } [الأعراف: 189] يشير إلى أن آدم عليه السلام لما خلق ونفخ في الورح كان روحه مستوحشاً من القلب الجسماني؛ لأنه كان أنيس الحق تعالى في حضائر القدس بكذا ألف سنة؛ ولهذا سمي إنساناً، ثم ولد له من نفسه بالنفخة الإلهية حواء، فلو لم يخلق حواء من نفسه لما سكن روحه إلى غير الحق، ومع هذا ما كان ليسكن روحه وروحها إلى شيء حتى أمر بالسكون إلى الجنة ونعيمها تأكيداً لمساكنة كل واحد منهما إلى الآخر بقوله تعالى: { وَقُلْنَا يَآءَادَمُ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ } [البقرة: 35] وهذا أمر التكوين إلى سكون الروح إلى القلب؛ لأنه خلق منه؛ ولأنه كان مخصوصاً بين الأصبعين من أصابع الله تعالى، وكان الروح يشم من القلب نسيم نفحات ألطاف الحق تعالى.
{ فَلَماَّ تَغَشَّاهَا } [الأعراف: 189]؛ أي: الروح القلب، { حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ } [الأعراف: 189]؛ أي: حمل القلب بالنفس وصفاتها حملاً خفيفاً في البداية بظهور آدنى أثر من أثار الصفات، خافاً على أنفسهما الروح والقلب من تبدل الصفات الروحانية الأخروية النورانية بالصفات النفسانية الدنيوية الظلمانية، { دَّعَوَا ٱللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ } [الأعراف: 189].
{ فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً } [الأعراف: 190]؛ أي: نفساً قابلة للعبودية، { جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا } [الأعراف: 190]؛ أي: جعل الروح والقلب وجه النفس إلى الدنيا ونعيمها؛ ليقوم القالب بها؛ ولقيامها صلاحاً للعبودية، فلما استلذت النفس من الدنيا عبدتها وعبدت ما فيها فصارت عبد البطن وعبد الخميصة وعبد الدرهم والدنيار، { فَتَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [الأعراف: 190] بأن يجعلوه شريك الدنيا في التعبد والعبودية، { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } [الأعراف: 191] يعني: الدنيا وما فيها، { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً } [الأعراف: 192]؛ أي لا يستطيع الدنيا وما فيها للروح والقلب والنفس تقوية وتربية إلا بالله تعالى، { وَلآ أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } [الأعراف: 192] للبقاء والدوام.