التفاسير

< >
عرض

ٱلأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٩٧
وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ ٱلسَّوْءِ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٩٨
وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ ٱللَّهِ وَصَلَوَاتِ ٱلرَّسُولِ أَلاۤ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٩٩
وَٱلسَّابِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنْصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
١٠٠
-التوبة

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن نفاق الأعراب ووفاق بعضهم بقوله تعالى: { ٱلأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً } [التوبة: 97] إلى قوله: { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [التوبة: 99] الإشارة فيه إلى أن في عالم الإنسان بدواً وهو نفسه، وحضراً هو قلبه، كما أن في العالم بدواً وحضراً.
وقوله تعالى: { ٱلأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً } يشير إلى النفس وهواها، فإن الكفر بها ذاتية كما أن الإيمان للقلب ذاتي من فطرة الله التي فطر الناس عليها، فيحتمل أن يصير القلب كافراً بسراية صفاته إليه فيتلون بلون النفس، كما يحتمل أن تصير النفس مؤمنة بسراية صفة القلب إليها فتتلون بلون القلب، ولكن النفس تكون أشد كفراً ونفاقاً من القلب وإن كان كافراً، كما أن القلب يكون أشد إيماناً من النفس وإن كانت مؤمنة، { وَأَجْدَرُ } [التوبة: 97] يعني: النفس صفاتها أولى من القلب.
{ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ } [التوبة: 97] من الواردات النازلة على الروح، { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [التوبة: 97] في أن يجعل بعض النفس الكافرة مؤمنة، وبعض القلب المؤمن كافراً، { وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً } [التوبة: 98] أي: من النفوس من يعتقد أن ما ينفق من الجد والاجتهاد في طلب الكمال.
{ مَغْرَماً } أي: لا حاصل أو سعيه صلاح وهذه خصائص النفس الأمارة بالسوء، فإن أنفق أن تكون مقهورة تحت سطوات الشريعة والطريقة فيصدر منها اختياراً واضطراراً بذل جهد وسعي في طلب الكمال على خلاف طبعها؛ لتتحسر على ذلك وتحتال في إبطائها والخلاص منها طلباً للاستراحة وتتبع شهواتها ولذاتها، { وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَائِرَ } [التوبة: 98] أي: ينتظر آفة تفتح للقلب، ويترصد فترة مانعة للقلب على الاشتغال بطلب الكمال، { عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ ٱلسَّوْءِ } [التوبة: 98] أي: على النفوس يدرو البلاء من استيلاء القلب عليها وقهرها بما يخالف هواها وطبعها، { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ } [التوبة: 98] سمع في الأزل، وأجاب هذا الدعاء في حقها وألزمها مطاوعة الشرع ومخالفة الهوى، { عَلِيمٌ } [التوبة: 98] بمن يسمع في حقه الدعاء.
{ وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ } [التوبة: 99] أي: ومن النفوس، { مَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ } [التوبة: 99] أي: من يؤمن بنور الله بعد أن تجلى الله سبحانه على قلبه فتنور وأشرقت أرض النفس بنور ربها، فتؤمن من بالله بنوره وترى الدرجات الأخروية بهذا النور فتؤمن بها، { وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ } [التوبة: 99] من الجد والاجتهاد في طلب الكمال، { قُرُبَاتٍ عِندَ ٱللَّهِ } [التوبة: 99] على قضية:
"من تقرب إلي شبراً تقربت منه ذراعاً" .
{ وَصَلَوَاتِ ٱلرَّسُولِ أَلاۤ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ } [التوبة: 99] أي: موجب بعمليات الروح، فإن السالك مهما يسلك في مهامه النفس وأودية القلوب كل خطوة يخطوها كما تقربه إلى الله يتقرب الله إليه بأصناف ألطافه بقربة تقربه إلى الروح، ويتقرب الروح إليه بتجليات صفاته وتصرفات أوصافهم، { سَيُدْخِلُهُمُ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ } [التوبة: 99] بجذبات ألطافه يأخذهم منهم ويهديهم برحمته إليه، { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ } [التوبة: 99] أي: ستار بصفته ومغفرته للصادق السالك الطالب العاش، { رَّحِيمٌ } [التوبة: 99] بطالبية؛ إذ لا يصلون إليه إلا بجذبات رحمته.
ثم أخبر عن السابقين الصادقين العاشقين بقوله تعالى: { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ } [التوبة: 100] أي: الذين سبقت لهم العناية الأزلية كما قال تعالى:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ } [الأنبياء: 101] الأولون في سبق العناية لهم أيضاً، والسابقون في الخروج من العدم، الأولون عند الخروج، وهم أهل الصف الأول في عالم الأرواح؛ إذ كانت الأرواح صفوفاً كالجنود المجندة، وأيضاً السابقون في الخروج عن صلب آدم عليه السلام عند أخذ ربهم وعند سماع خطاب ربهم حين قال: { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } [الأعراف: 172] والسابقون الأولون في جواب: { بَلَىٰ } [الأعراف: 172].
وأيضاً السابقون الأولون في تجلي ربهم بصفة ربوبيته لهم حتى عرفوه بهذه الصفة فأجابوه بقولهم: { بَلَىٰ } فلهم السبق في استماع الخطاب والرؤية والمعرفة والإقرار والإجابة، وأيضاً السابقون في استحقاق المحبة نداء اختصاصهم بتشريف { يُحِبُّهُمْ } في الأزل، الأولون بأداء حق المحبة في سر { وَيُحِبُّونَهُ }، وأيضاً السابقون الأولون في تجديد عهد المحبة عند تجلي صفة الربوبية يوم الميثاق، وأيضاً السابقون الأولون عند تخمر طينة آدم بيده أربعين صباحاً ومماساة الحضرة الربوبية على أقرانهم الأولون بالوصال إلى سرادقات الجلال، وأيضاً السابقون في مقامات الوصول عن أقرانهم الأولون من الذين وصلواتك المقامات.
واعلم أن هذه السبق مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم وأمته كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم:
"نحن الآخرون السابقون" أي: الآخرون خروجاً في الصورة، السابقون دخولاً في المقامات المذكورة كلها، قوله تعالى: { مِنَ ٱلْمُهَاجِرِينَ } [التوبة: 100] أي: الذي هاجروا عن أوطان البشرية إلى أوطان الروحانية، وعن الروحانية إلى كمال الإنسانية، وعن الإنسانية إلى الصفات الربانية، وعن الناسوتية إلى اللاهوتية، { وَٱلأَنْصَارِ } [التوبة: 100] أي: الذين كانوا أنصار الله في طلب الله مع الإخوان في الله.
{ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ } [التوبة: 100] أي: الذين اتبعوا أهل السبق وبذلوا جهدهم في الوصول إليهم والإلحاق بهم بقدر الإمكان، كما كان حال أبي بكر رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم في الطلب بالمسابقة معه قبل بعثته حيث قال:
"كنت أنا وأبو بكر كفرسي رهان" كما قال تعالى: { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُم } [الطور: 21]، وكقول يوسف عليه السلام: { وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّالِحِينَ } [يوسف: 101] يعني: أنا متابع لهم فالحقني بهم.
{ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ }[التوبة: 100] عن السابقين في الأزل؛ إذ هم السابقون بنيل الرضوان فرضي عنهم بأن يكونوا من أهل محبته وقربته والوصول إليه فأعطاهم ما به رضي الله عنهم وارتضى لهم بنيل ما أعطاهم وارتضى لهم من الكمالات، ورضي أيضاً عنهم بإعطاء حق الطلب بما ارتضاه لهم ببذل الجهود في الصبر على الصراط المستقيم ورضي عن المتابعين لهم ببذل التوفيق والاتباع السابقين إذ اتبعوهم بالإحسان والإمكان وحسب الاستعداد.
{ وَرَضُواْ عَنْهُ } [التوبة: 100] إذ بلغهم أعلى درجات السابقين بقدر وهو علو الهمة في الطلب وبذل الجد والاجتهاد على قوم المتابعة، والوصول إلى أعلى درجات مقامات السابقين بقدر استعدادهم ونالوا منه مأمولهم وأعطى لهم سؤلهم، { وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ } [التوبة: 100] في قلوبهم بساتين أشجارها الإيمان واليقين والصدق والإخلاص والتوكل والتسليم والرضا، { تَجْرِي تَحْتَهَا ٱلأَنْهَارُ } [التوبة: 100] من ماء العناية والمواهب الربانية.
{ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } [التوبة: 100] أي: لا تنقطع عنهم العناية، ويزيد في أثمار تلك الأشجار من المشاهدات والمكاشفات الربانية إلى أبد الآباد، { ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } [التوبة: 100] وهو الفناء عن الأوصاف الإنسانية، والبقاء بالصفات الربانية.