التفاسير

< >
عرض

مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ
٤
-الفاتحة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ عاصم والكسائي وخلف ويعقوب الحضرمي مالك بالألف والباقون ملك بغير ألف ولم يُمِل أحدٌ مالك وجرَّ جميعهم الكاف وروي في الشواذ عن الأعمش أنه نصبها وربيعة بن نزار يخفف فيقول ملك يوم الدين بتسكين اللام.
الحجة: اختلفوا في أن أي القراءتين أمدح فمن قرأ مالك قال أن هذه الصفة أمدح لأنه لا يكون مالكاً للشيء إلا وهو يملكه وقد يكون مِلكا للشيء ولا يملكه كما يقال: ملك العرب وملك الروم وإن كان لا يملكهم وقد يدخل في المالك ما لا يصح دخوله في الملك يقال: فلان مالك الدراهم ولا يقال ملك الدراهم فالوصف بالمالك أعم من الوصف بالملك. والله مالك كل شيء وقد وصف نفسه بأنه مالك الملك يؤتي الملك من يشاء فوضعه بالمالك أبلغ في الثناء والمدح من وصفه بالملك ومن قرأ الملك قال: أن هذه الصفة أمدح لأنه لا يكون إلا مع التعظيم والاحتواء على الجمع الكثير واختاره أبو بكر محمد بن السري السراج وقال: إن الملك الذي يملك الكثير من الأشياء ويشارك غيره من الناس في ملكه بالحكم عليه وكل ملك مالك وليس كل مالك ملكاً وإنما قال تعالى
{ { مَالِكَ ٱلْمُلْكِ } [آل عمران: 26] لأنه تعالى يملك ملوك الدنيا وما ملكوا فمعناه أنه يملك ملك الدنيا فيؤتي الملك فيها من يشاء فأما يوم الدين فليس إلا ملكه وهو ملك الملوك يملكهم كلهم وقد يستعمل هذا في الناس يقال: فلان ملك الملوك وأمير الأمراء ويراد بذلك أن من دونه ملوكاً وأمراء ولا يقال ملك الملك ولا أمير الإِمارة لأن أميراً وملكاً صفة غير جارية على فعل معنى لإضافتها إلى المصدر فأما إضافة ملك إلى الزمان فكما يقال: ملك عام كذا وملوك الدهر الأول وملك زمانه وسيد زمانه فهو في المدح أبلغ والآية إنما نزلت في الثناء والمدح لله الا ترى إلى قولـه رب العالمين والربوية والملك متشابهان وقال أبو علي الفارسي: يشهد لمن قرأ مالك من التنزيل قولـه تعالى: { { وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [الانفطار: 19] لأن قولك الأمر له وهو مالك الأمر بمعنىً ألا ترى أن لام الجر معناها المِلك والاستحقاق وكذلك قولـه تعالى: { { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً } [الانفطار: 19] يقوّي ذلك ويشهد لقراءة مَن قرأ ملك قولـه تعالى: { { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ } [غافر: 16] لأن اسم الفاعل من المُلك المِلك فإِذا قال المُلك له ذلك اليوم بمنزلة قولـه هو مَلِك ذلك اليوم وهذا مع قولـه فتعالى الله المَلِك الحق والملك القدوس و مَلِك الناس.
اللغة: (الملك): القادر الواسع المقدرة الذي له السياسة والتدبير (والمالك): القادر على التصرف في ماله وله أن يتصرف فيه على وجه ليس لأحد منعه منه ويوصف العاجز بأنه مالك من جهة الحكم يقال: مَلِك بيّن الملك بضم الميم ومالك بيّن الملك والملك بكسر الميم وفتحها, وضم الميم لغة شاذة ويقال: طالت مملكتهم الناس ومملكتهم بكسر اللام وفتحها ولي في هذا الوادي مُلك ومِلك وَمَلك ذكرها أبو علي الفارسي وقال: الملك للشيء اختصاص من المالك به وخروجه من أن يكون مباحاً لغيره, ومعنى الإباحة في الشيء كالإتساع فيه وخلاف الحصر والقصر على الشيء؛ ألا تراهم قالوا باح السر وباحت الدار وقال أبو بكر محمد بن السري السراج: الملك والملك يرجعان إلى أصل واحد وهو الربط والشد كما قالوا: ملكت العجين أي: شددته قال الشاعر:

مَلَكْتُ بِها كَفّي فَأَنْهرْتُ فَتْقَها يَرَى قَائمٌ مِن دُوْنِها مَا وَرَاءَهَا

يقول: شددت بهذه الطعنة كفّي ومنه الأملاك ومعناه: رباط الرجل بالمرأة و { الدين } معناه في الآية الجزاء قال الشاعر:

واعلَمْ بأنَّك ما تَدين تُدان

وهو قول سعيد بن جبير وقتادة وقيل: الدين الحساب وهو المرويُّ عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (ع) وابن عباس والدين: الطاعة قال عمرو بن كلثوم:

وأَيَّامٍ لَنَا غُرٍ طِوَالٍ عَصيْنَا المَلْكَ فيها أَمْ نَدِيْنا

والدين: العادة قال الشاعر:

تَقَولُ إِذَا دَرَأتُ لَها وَضيْنِي أَهَذا دِيْنُهُ أبداً ودَيْنِي

والدين: القهر والإستعلاء قال الأعشى:

هُو دَانَ الرِبابَ إِذ كَرِهُوا الدِ يْنَ دِرَاكاً بِغَزْوَةٍ واحْتِيَالِ
ثمَّ دانت بَعْدُ الرِبَابُ وَكَانَتْ كَعَذَابٍ عَقْوْبَةُ الأقْوَالِ

ويدل على أن المراد به الجزاء والحساب قولـه تعالى: { { ٱلْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَـسَبَتْ } [غافر: 17] و { ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الجاثية: 28].
الإعراب: { مالك }: مجرور على الوصف لله تعالى وما جاء من النصب فعلى ما ذكرناه من نصب رب العالمين ويجوز أن ينصب رب العالمين ومالك يوم الدين على النداء كأنك قلت: لك الحمد يا رب العالمين ويا مالك يوم الدين, ومن قرأ ملك يوم الدين بإسكان اللام: فأصله ملك فخفف كما يقال: فخِذ وفخْذ, ومن قرأ ملك يوم الدين: جعله فعلاً ماضياً ويوم مجرور بإِضافة ملك أو مالك إِليه وكذلك الدين مجرور بإِضافة يوم إِليه وهذه الإِضافة من باب يا سارق الليلة أهل الدار اتسع في الظرف فنصب المفعول به ثم أضيف إِليه على هذا الحد كما قال الشاعر أنشده سيبويه:

وَيَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُليماً وعَامِراً قَلَيْلٍ سِوى الطَّعْنِ النّهالِ نَوَافِلُه

فكأنه قال: هو ملك ذلك اليوم ولا يؤتي أحداً الملك فيه كما آتاه في الدنيا فلا ملك يومئذ غيره ومن قرأ مالك يوم الدين فإِنه قد حذف المفعول به من الكلام للدلالة عليه وتقديره: مالك يوم الدين الأحكام والقضاء لا يملك ذلك ولا يليه سواه أي لا يكون أحد والياً سواه إِنما خص يوم الدين بذلك لتفرده تعالى بذلك في ذلك اليوم وجميع الخلق يضطرون إِلى الإِقرار والتسليم, وأما الدنيا فليست كذلك فقد يحكم فيها ملوك ورؤساء وليست هذه الإضافة مثل قولـه تعالى: { { وَعِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } [الزخرف: 85] مفعول بها على الحقيقة وليست مفعولاً بها على السعة لأن الظرف إِذا جعل مفعولاً على السعة فمعناه معنى الظرف ولو كانت الساعة ظرفاً لكان المعنى يعلم في الساعة وذلك لا يجوز لأنه تعالى يعلم في كل وقت والمعنى أنه يعلم الساعة أي: يعرفها.
المعنى: إنه سبحانه لما بيَّن ملكه في الدنيا بقولـه رب العالمين بيَّن أيضاً ملكه في الآخرة بقولـه مالك يوم الدين وأراد باليوم الوقت وقيل: أراد به امتداد الضياء إِلى أن يفرغ من القضاء ويستقر أهل كل دار فيها. وقال أبو علي الجبائي: أراد به يوم الجزاء على الدين. وقال محمد بن كعب: أراد يوم لا ينفع إِلا الدين وإِنما خصَّ يوم القيامة بذكر الملك فيه تعظيماً لشأنه وتفخيماً لأمره كما قال: رب العرش وهذه الآية دالة على إِثبات المعاد وعلى الترغيب والترهيب لأن المكلف إِذا تصور ذلك لا بد أن يرجو ويخاف.