التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ ٱسْتِعْجَالَهُمْ بِٱلْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
١١
وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٢
-يونس

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ ابن عامر ويعقوب { لَقضى } بفتح القاف { أَجَلَهم } منصوب والباقون لقُضِي على ما لم يسم فاعله أجلُهم بالرفع.
الحجة: قال أبو علي: اللام في قولـه { لقضي } إليهم جواب { لو } في قولـه { ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير } والمعنى والله أعلم ولو يعجل الله للناس دعاء الشرّ أي ما يدعون به من الشر على أنفسهم في حال ضجر أو بطر استعجاله إياهم بدعاء الخير فأضاف المصدر إلى المفعول فحذف الفاعل كقولـه تعالى
{ { لا يسأم الإنسان من دعاء الخير } [فصلت: 49] في حذف ضمير الفاعل والتقدير ولو يعجل الله للناس الشر استعجالاً مثل استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم قال أبو عبيدة لقضي إليهم أجلهم معناه لفرغ من أجلهم وأنشد لأبي ذويب:

وَعَلَيْهِمَا مَسْرَودَتان قَضاهما داودُ أَوْ صَنَــعُ السّوابِغِ تُبَّعُ

ومثل ما أنشده قول الآخر:

قَضَيْتَ أُمُوراً ثُمّ غادَرْتَ بَعْدَها بوائِـــقَ في أَكْمـــامِها لَمْ تُفَتَّقِ

والمعنى لفرغ من أجلهم ومدتهم المضروبة للحياة وإذا انتهيت مدتهم المضروبة للحياة هلكوا وهذا قريب من قوله { ويدعو الإنسان بالشرّ دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولاً } [الإسراء: 11] وقالوا للميت مقضى كأنه قضى إذا مات وقضي فعل. التقدير استوفى أجله وفرغ منه قال ذو الرمة:

إذا الشَّخْص فيها هِزَّهُ الآلُ أَغْمَضَتْ عَلَيْهِ كإغْماضِ الْمُقَضِّي هُجُولُها

المعنى أغمضت هجول هذه البلاد علي الشخص الذي فيها فلم ير لغرقه في الآل كإغماض المقضي وهو الميت وأما ما يتعلق به الجار من قولـه { لقضي إليهم } فكأنه لما كان معنى قضى فرغ وكان قولهم فرغ يتعدى بهذا الحرف في قوله:

الآنَ فقد فرغـْتَ إلى نُميْـــر فَهذا حِينَ صِرْتُ لَهُمْ عَذابا

وفي التنزيل { { سنفرغ لكم أيها الثقلان } [الرحمن: 31] أمكن أن يكون الفعل يعدَّى باللام كما يعدّى بإلى وباللام في قوله { { بأن ربك أوحى لها } [الزلزلة: 5] فلما كان معنى قضى فرغ تعلّق بها إلى كذلك تعلق بقضي ووجه قراءة ابن عامر لقضي إليهم أجلهم على إسناد الفعل إلى الفاعل أن الذكر قد تقدَّم في قوله { ولو يعجل الله للناس } [يونس: 11] فقال: لقضى على هذا ومن حجته في ذلك قولـه { ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده } [الأنعام: 2] فهذا الأجل الذي في هذه الآية هو الأجل المضروب للمحيا كما أن الأجل في قولـه { لقضي إليهم أجلهم } كذلك فكما أسند الفعل في الأجل المضروب للحياة إلى الفاعل في قولـه { { ثم قضى أجلاً } [الأنعام: 2] عند الجميع كذلك أسنده ابن عامر في قوله لقضى إليهم أجلهم إلى الفاعل ولم يسنده إلى الفعل المبني للمفعول ويدل على أن الأجل في قولـه { ثم قضى أجلا } اجل المحيا أن قولـه وأجل مسمى عنده أجل البعث يبيّن ذلك قوله { { ثم أنتم تمترون } [الأنعام: 2] أي أنتم أيها المشركون تشكُّون في البعث ومن قرأ لقضي فبنى الفعل للمفعول به فلأنه في المعنى مثل قول من بنى الفعل للفاعل.
الإعراب: قولـه لجنبه في موضع نصب على الحال تقديره دعانا منبطحاً لجنبه أو دعانا قائماً ويجوز ان يكون تقديره إذا مسّ الإنسان الضرّ لجنبه أو مسّه قاعداً أو مسّه قائماً دعانا وموضع الكاف من كذلك نصب على مفعول ما لم يسم فاعله أي زيّن للمسرفين عملهم مثل ذلك.
المعنى: ثم عاد الكلام إلى ذكر المائلين إلى الدنيا المطمئنين إليها الغافلين عن الآخرة فقال: { ولو يعجل الله للناس الشر } أي إجابة دعوتهم في الشر إذا دعوا به على أنفسهم وأهاليهم عند الغيظ والضجر واستعجلوه مثل قول الإنسان رفعني الله من بينكم وقوله لولده اللهم العنه ولا تبارك فيه { استعجالهم بالخير } أي كما يعجل لهم إجابة الدعوة بالخير إذا استعجلوها: { لقضي إليهم أجلهم } أي لفرغ من إهلاكهم ولكن الله تعالى لا يعجل لهم الهلاك بل يمهلهم حتى يتوبوا. وقيل: معناه ولو يعجلّ الله للناس العقاب الذي استحقَّوه بالمعاصي كما يستعجلونهم خير الدنيا وربما أجيبوا إلى ما سألوه إذا اقتضت المصلحة ذلك لفنوا لأن بنية الإنسان في الدنيا لا تحتمل عقاب الآخرة بل لا تحتمل ما دونه والله سبحانه يوصله إليهم في وقته وسمي العقاب شرّاً من جهة المشقة والأذى الذي فيه وفائدته انه لو تعجلت العقاب لزال التكليف ولا يزول التكليف إلا بالموت وإذا عوجلوا بالموت لم يبق أحد:
{ فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون } أي فندع الذين لا يخافون البعث والحساب يتحيَّرون في كفرهم وعدولهم عن الحق إلى الباطل وتمردهم في الظلم. والعمه شدة الحيرة.
ثم أخبر سبحانه عن قلة صبر الإنسان على الضرر والشدائد فقال: { وإذا مس الإنسان الضر } أي المشقة والبلاء والمحنة من محن الدنيا { دعانا لجنبه } أي دعانا لكشفه مضطجعاً { أو قاعداً أو قائماً } أي على أيّ حال كان عليها واجتهد في الدعاء وسؤال العافية وليس غرضه بذلك نيل ثواب الآخرة وإنما غرضه زوال ما هو من الألم والشدة. وقيل: إن تقديره وإذا مس الإنسان الضر مضطجعاً أو قاعداً أو قائماً دعانا لكشفه وفيه تقديم وتأخير { فلما كشفنا عنه ضره } أي فلما أزلنا عنه ذلك الضرر ووهبنا له العافية { مرَّ } أي استمر على طريقته الأولى معرضاً عن شكرنا { كأن لم يدعنا إلى ضرّ مسَّه } أي كأن لم يدعنا قط لكشف ضره ولم يسألنا إزالة الألم عنه { كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون } أي كما زين لهم الشيطان وأقرانهم الغواة ترك الدعاء عند الرخاء زيّنوا للمسرفين أي للمشركين عملهم عن الحسن. ويحتمل أن يكون زين المسرفون بعضهم لبعض وإن لم يضف التزيين إليهم فهو كقولهم فلان معجب بنفسه وقد حثَّ الله سبحانه بهذه الآية الذين منحوا الرخاء بعد الشدة والعافية بعد البلية على أن يتذكروا حسن صنع الله إليهم وجزيل نعمته عليهم ويشكروه على ذلك ويسألوه إدامة ذلك لديهم ونبَّه بذلك على وجوب الصبر عند المحنة احتساباً للأجر وابتغاءً للثواب والذخر.