التفاسير

< >
عرض

إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ
٣
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ بِٱلْقِسْطِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ
٤
-يونس

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أبو جعفر المدني أنه يبدأ بفتح الهمزة وهو قراءة الأعمش والباقون بكسرها.
الحجة: من قرأ أنه فتقديره وعد الله حقاً لأنه يبدأُ الخلق ثم يعيده أي من قدر على هذا الأمر العظيم فإنه غني عن إخلاف الوعد وإن شئت كان تقديره وعد الله وعداً حقاً أنه يبدأ الخلق فيكون في محل النصب بالفعل الناصب لقولـه { وعداً } قال ابن جني ولا يجوز أن يكون أن منصوبة الموضع بنفس وعداً لأنه قد وصف بقوله حقاً والصفة إذا جرت على موصوفها أذنت بتمامه وانقضاء أجزائه ولا يكون تاماً إذا كان ما بعد الصفة من صلته فأما قول الحطيئة:

أَزْمَعْتُ يَأساً مُبِيناً مِنْ نَوالِكُمُ وَلَنْ تَرى طارِداً لِلْحُرّ كالْيَأْسِ

فإن قولـه من نوالكم ليس من صلة يأس بل يتعلق بفعل يدل عليه قولـه يأساً مبيناً فكأنه قال فيما بعد يئست من نوالكم وقال الفراء من فتح جعله مفعول حقاً كما في قول الشاعر:

أَحَقَّاً عِبادَ الله أنْ لَسْتُ زائراً بُثَيْنَـةَ أَوْ يَلْقَى الثُّرَيا رَقِيبُها

اللغة: القسط العدل ومنه القسط النصيب والقسط بفتح القاف الجور والقَسَط بفتح القاف والسين اعوجاج في الرجلين والحميم الماء الذي أسخن بالنار أشد إسخان قال المرقش الأصغر:

في كُلِّ يَوْمٍ لَها مِقْطَرَةٌ فيها كِباءٌ مُعَدُّ وَحَميمُ

الإعراب: جميعاً نصب على الحال وعد الله منصوب على المصدر لأن قولـه { إليه مرجعكم } معناه الوعد بالرجوع وحقاً منصوب على أحق ذلك حقاً عن الزجاج وأضيف المصدر في قوله { وعد الله } إلى الفاعل لما لم يذكر الفعل كما في قول كعب بن زهير:

تَسْعَى الوُشاةِ جَنابَيْها وقِيلَهُمُ إنّـــك يَا بْنَ أَبي سَلْمى لَمَقْتُولُ

أي ويقولون قيلهم.
المعنى: { إن ربكم } أي خالقكم ومنشئكم ومالك تدبيركم وتصريفكم من أمره ونهيه والذي يجب عليكم عبادته { الله الذي خلق السماوات والأرض } أي اخترعهما وأنشأهما على ما فيهما من عجائب الصنعة وبدائع الحكمة: { في ستة أيام } بلا زيادة ونقصان مع قدرته على إنشائهما دفعة واحدة والوجه فيه أن في ذلك مصلحة للملائكة وعبرة لهم ولغيرهم إذا أخبروا عن ذلك وكذلك تصريف الإنسان حالاً بعد حال وإخراج الثمار والأزهار شيئاً بعد شيء مع قدرته على ذلك في أقل من لمح البصر لأن ذلك أبعد من توهم الإنفاق فيه { ثم استوى على العرش } مر تفسيره في سورة الأعراف. وقيل: إن العرش المذكور هنا هو السماوات والأرض لأنهن من بنائه والعرش البناء. وأما العرش المعظم الذي تعبد الله سبحانه الملائكة بالحفوف به والإعظام له وعناه بقولـه
{ الذين يحملون العرش ومن حوله } [غافر: 7] فهو غير هذا. وقيل: إن ثم هنا بمعنى الواو. وقيل: إن ثم دخل على التدبير وتقديره أي ثم استوى عليه بإنشاء التدبير من جهته كما يستوي الملك على سرير ملكه بالاستيلاء على تدبيره فإن تدبير الأمور كلها ينزل من عند العرش ولهذا ترفع الأيدي في دعاء الحوائج نحو العرش: { يدبر الأمر } أي يقدر وينفذه على وجهه ويرتّبه على مراتبه على أحكام عواقبه وهو مأخوذ من الدبور.
{ ما من شفيع إلا من بعد إذنه } إنما قال هذا وإن لم يجر ذكر للشفعاء لأن الكفار كانوا يقولون الأصنام شفعاؤنا عند الله فبيَّن سبحانه أن الشفيع إنما يشفع عنده إذا أذن له قي الشفاعة وإذا كانت الأصنام لا تعقل فكيف تكون شافعة مع أنه لا يشفع عنده أحد من الملائكة والنبيين إلا بإذنه وأمره. { ذلكم الله ربكم } أي أن الموصوف بهذه الصفات هو إلهكم { فاعبدوه } وحده لأنه لا إله لكم سواه ولا يستحق هذه الصفات غيره ولا تعبدوا الأصنام { أفلا تذكرون } حثَّهم سبحانه على التذكر والتفكر فيما أخبرهم به وعلى تعرف صحته.
{ إليه مرجعكم جميعاً } المرجع يحتمل معنيين أحدهما: أن يكونا بمعنى المصدر الذي هو الرجوع والآخر: أن يكون بمعنى موضع الرجوع أي إليه موضع رجوعكم يكون إذا شاء { وعد الله حقاً } أي وعد الله تعالى ذلك عباده وعداً حقاً صدقاً: { إنه يبدؤ الخلق ثم يعيده } أي يبتدئ الخلق ابتداء ثم يعيدهم بعد موتهم { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي ليؤتيهم جزاء أعمالهم: { بالقسط } أي بالعدل لا ينقص من أجورهم شيئاً { والذين كفروا لهم شراب من حميم } أي ماء حار قد انتهى حرّه في النار: { وعذاب أليم } وجيع { بما كانوا يكفرون } أي جزاء على كفرهم.
النظم: وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أنه قال أكان للناس عجباً قالوا وكيف لا نعجب ولا علم لنا بالمرسل. فقال: إن ربكم الله ويجوز أن يكون على أنه لما قال: أكان للناس عجباً وكان هذا حكماً على الله سبحانه فكأنه قال: أفتحكمون عليه وهو ربكم قال الأصم: ويحتمل أن يكون هذا ابتداء خطاب للخلق جميعاً احتجَّ الله بها على عباده بما بيَّن من بدائع صنعه في السماوات والأرض وفي أنفسهم.