التفاسير

< >
عرض

قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ٱللَّهِ تَفْتَرُونَ
٥٩
وَمَا ظَنُّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ
٦٠
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلاۤ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ
٦١
-يونس

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ الكسائي وما يعزب بكسر الزاي هنا وفي سبأ وهو قراءة الأعمش ويحيى بن وثاب وقرأ الباقون بضم الزاي وقرأ حمزة وخلف ويعقوب وسهل ولا أصغرُ ولا أكبرُ بالرفع والباقون بفتحها.
الحجة: يعزِب ويعزُب لغتان صحيحتان ومن فتح الزاي من أصغر وأكبر فلأن أفعل في الموضعين في موضع جرٍّ على تقدير ما يعزب عن ربك من مثقال ذرة ولا مثقال أصغر من ذلك ولا أكبر وإنما فتح لأنه غير منصرف وإنما منع الصرف لأن الفعل إذا اتصل به "مِنْ" كان صفة وإذا كان صفة لم ينصرف في النكرة ومن رفع حمله على موضع الجار والمجرور الذي هو من مثقال ذرة فإنه في موضع رفع كما كانا في قوله { وكفى بالله } ويجوز رفعه من جهة أخرى على الابتداء ويكون الخبر قوله { إلا في كتاب مبين }.
اللغة: الشأن اسم يقع على الأمر والحال تقول ما شأنك وما بالك وما حالك والإفاضة الدخول في العمل على جهة الانصباب إليه مأخوذ من فيض الإناء إذا انصب الماء من جوانبه ومنه قولـه أفضتم من عرفات أي تفرقتم كتفرق الماء الذي ينصب من الإناء والعزوب الذهاب عن المعلوم وضدُّه حضور المعنى للنفس وتعزب إذا انفرد عن أهله.
الإعراب: ما في قولـه { ما أنزل الله } في موضع نصب بأنزل ويكون بمعنى أي في الاستفهام ويحتمل أن يكون ما بمعنى الذي فيكون نصباً برأيتم.
المعنى: ثم أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخاطب كفار مكة فقال { قل } يا محمد لهم { أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق } فجعله حلالاً { فجعلتم منه حراماً وحلالاً } أي جعلتم بعضه حراماً وبعضه حلالاً يعني ما حرَّموا من السائبة والبحيرة والوصيلة ونحوها مما حرَّموا من زروعهم وإنما قال أنزل الله لأن أرزاق العباد من المطر الذي ينزله الله { قل } يا محمد لهم { آلله أَذن لكم أم على الله تفترون } ومعناه أنه لم يأذن لكم في شيء من ذلك بل أنتم تكذبون في ذلك على الله سبحانه { وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة } معناه أيُّ شيء يظن الذين يكذبون على الله أنه يصيبهم يوم القيامة على افترائهم على الله أي لا ينبغي أن يظنوا أن يصيبهم على ذلك إلا العذاب الشديد والعقاب الأليم.
{ إن الله لذو فضل على الناس } بما فعل بهم من ضروب الإنعام { ولكن أكثرهم لا يشكرون } نعمه ويجحدونها وهذا الكلام خرج مخرج التقريع على افتراء الكذب وإن كان في صورة الاستفهام وتقديره أيؤديهم افتراؤهم الكذب إلى خير أم شرٍّ. وقيل: إن معنى قوله { لذو فضل على الناس } أنه لم يضيق عليهم بالتحريم كما ادعيتم ذلك عليه. وقيل: معناه أنه لذو فضل على خلقه بترك معاجلة من افترى عليه الكذب بالعقوبة في الدنيا وإمهاله إياهم إلى يوم القيامة.
ثم بيَّن سبحانه أنه إمهاله إياهم ليس لجهل بحالهم فقال { وما تكون في شأن } أي ما تكون أنت يا محمد في حال من الأحوال وفي أمر من أمور الدين. وقيل: تبليغ الرسالة وتعليم الشريعة وغير ذلك { وما تتلوا منه من قرآن } أي وما تقرأ من الله من قرآن. وقيل: من الكتاب من قرآن والقرآن يقع على القليل والكثير منه. وقيل: إن الهاء تعود إلى الشأن أي وما تتلو من الشأن من قرآن { ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً } أي ولا تعمل أنت وأمتك من عمل إلا كنا عالمين به شاهدين عليكم به { إذ تفيضون فيه } أي تدخلون فيه وتخوضون فيه { وما يعزب عن ربك } أي وما يبعد وما يغيب عن علم ربك ورؤيته وقدرته { من مثقال ذرة } أي وزن نملة صغيرة { في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك } من وزن نملة { ولا أكبر إلا في كتاب مبين } أي في كتاب بيَّنه الله فيه قبل أن خلقه وهو اللوح المحفوظ. وقيل: أراد به كتاب الحفظة الذى كتبه الملائكة السفرة وحفظوه وقال الصادق (ع): كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ هذه الآية بكى بكاء شديداً.
النظم: قيل في اتصال الآية الأولى بما قبلها أنها اتصلت بقوله { قل من يرزقكم من السماء والأرض } فإذا قرأوا أنه الرزاق. قيل لهم أجعلتم ما رزقكم بعضه حراماً وبعضه حلالاً عن أبي مسلم. وقيل: لما وصف القرآن بأنه هدًى ورحمة وأمرهم بالتمسك بما فيه عقَّبه بذكر مخالفتهم لما جاء في القرآن وتحريمهم ما أحلَّ الله.