التفاسير

< >
عرض

وَٱلْعَادِيَاتِ ضَبْحاً
١
فَٱلمُورِيَاتِ قَدْحاً
٢
فَٱلْمُغِيرَاتِ صُبْحاً
٣
فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً
٤
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً
٥
إِنَّ ٱلإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ
٦
وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَلِكَ لَشَهِيدٌ
٧
وَإِنَّهُ لِحُبِّ ٱلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ
٨
أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي ٱلْقُبُورِ
٩
وَحُصِّلَ مَا فِي ٱلصُّدُورِ
١٠
إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ
١١
-العاديات

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: في الشواذ قراءة أبي حياة فأثَّرن بتشديد الثاء وقراءة علي (ع) وقتادة وابن أبي ليلى فوسَّطن بتشديد السين.
الحجة: قال ابن جني: فأثَّرن مثل أَبدَيْنَ وأَرَينَ نقعاً كما يؤثر الإنسان النقش وغيره مما يبديه للناظر وهو من التأثير فالهمزة فاء الفعل وأثرن بالتخفيف من الإثارة فالهمزة مزيدة وقوله فوسَّطن بالتشديد معناه ميَّزن به جمعاً أي جعلته شطرين قسمين وشقين ومعنى وسطنه بالتخفيف صرن في وسطه.
اللغة: الضبح في الخيل الحمحمة عند العدو. وقيل: هو شدة النفس عند العدو وضبحت الخيل تضبح ضبحاً وضباحاً. وقيل: ضبح وضبع بمعنى وهو أن يمدَّ ضبعه في السير حتى لا يجد مزيداً وأورى القادح النار يوري إيراء إذا قدح قدحاً وتسمى تلك النار نار الحباحب لضعفها قال النابغة:

يَقُـدُّ السَّلُوقِيَّ الْمُضاعَفَ نَسْجُهُ وَيُوقِدْنَ بِالصَّفاحِ نارَ الْحَباحِبِ

وهو اسم رجل كان بخيلاً وكانت ناره ضعيفة لئلا يراها الأضياف فضربوا المثل بناره وشبهوا نار الحوافر بها لقلتها والنقع الغبار يغوص فيه صاحبه كما يغوص في الماء والكنود الكفور ومنه الأرض الكنود وهي التي لا تنبت شيئاً والأصل فيه منع الحق والخير قال الأعشى:

أَحْدِثْ لَها تُحْدِثْ لِوَصْلِكَ إنَّها كَنِــدٌ لِوَصْــلِ الزّائِـرِ الْمُعْتادِ

وقيل إنما سميت كندة لقطعها إياها.
النزول: قيل: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى حيّ من كنانة فاستعمل عليهم المنذر بن عمرو الأنصاري أحد النقباء فتأخر رجوعهم فقال المنافقون قتلوا جميعاً فأخبر الله تعالى عنها بقوله { والعاديات ضبحاً } عن مقاتل. وقيل: نزلت السورة لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم علياً (ع) إلى ذات السلاسل فأوقع بهم وذلك بعد أن بعث عليهم مراراً غيره من الصحابة فرجع كل منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المروي عن أبي عبد الله (ع) في حديث طويل قال وسمّيت هذه الغزوة ذات السلاسل لأنه أسر منهم وقتل وسبى وشدّ أسراهم في الحبال مكتفين كأنهم في السلاسل ولما نزلت السورة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فصلى بهم الغداة وقرأ فيها والعاديات فلما فرغ من صلاته قال أصحابه هذه سورة لم نعرفها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"نعم إن علياً ظفر بأعداء الله وبشَّرني بذلك جبرائيل (ع) في هذه الليلة" فقدم علي (ع) بعد أيام بالغنائم والأسارى.
المعنى: { والعاديات ضبحاً } قيل هي الخيل في الغزو تعدو في سبيل الله عن ابن عباس وعطاء وعكرمة والحسن ومجاهد وقتادة والربيع قالوا أقسم الله بالخيل العادية لغزو الكفار وهي تضبح ضبحاً وضبحها صوت أجوافها إذا عَدَت ليس بصهيل ولا حمحمة ولكنه صوت نفس. وقيل: هي الإبل حين ذهبت إلى غزوة بدر تمدّ أعناقها في السير فهي تضبح أي تضبع روي ذلك عن علي (ع) وابن مسعود والسدي وروي أيضاً أنها إبل الحاج تعدو من عرفة إلى المزدلفة ومن المزدلفة إلى منى قالت صفية بنت عبد المطلب:

ألا وَالْعادِياتِ غَدَاةَ جَمْع بأيْدِيهـا إذا سَطـَعَ الْغُبارُ

واختلفت الروايات فيه فروي عن أبي صالح أنه قال قاولت فيه عكرمة فقال عكرمة: قال ابن عباس: هي الخيل في القتال فقلت أنا قال علي (ع): هي الإبل في الحج وقلت مولاي أعلم من مولاك وفي رواية أخرى أن ابن عباس قال هي الخيل ألا تراه يقول { فأثرن به نقعاً } فهل تثيره إلا بحوافرها وهل تضبح الإبل إنما تضبح الخيل قال علي (ع): ليس كما قلت لقد رأيتنا يوم بدر وما معنا إلا فرس أبلق للمقداد بن الأسود وفي رواية أخرى لمرثد بن أبي مرثد الغنوي وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال بينما أنا في الحجرة جالس إذ أتاني رجل فسأل عن العاديات ضبحاً فقلت له الخيل حين تغير في سبيل الله ثم تأوي إلى الليل فيصنعون طعامهم ويورون نارهم فانفتل عني وذهب إلى علي بن أبي طالب (ع) وهو تحت سقاية زمزم فسأله عن العاديات ضبحاً فقال سألتَ عنها أحداً قبلي قال نعم سألت عنها ابن عباس فقال الخيل حين تغير في سبيل الله قال فاذهب فادعه لي فلما وقف على رأسه قال تفتي الناس بما لا علم لك به والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام بدر وما كانت معنا إلا فرسان فرس للزبير وفرس للمقداد بن الأسود فكيف تكون العاديات الخيل بل العاديات ضبحاً الإبل من عرفة إلى مزدلفة ومن مزدلفة إلى منى قال ابن عباس: فرغبت عن قولي ورجعت إلى الذي قال علي (ع):
{ فالموريات قدحاً } هي الخيل توري النار بحوافرها إذا صارت في الحجارة والأرض المحصبة عن عكرمة والضحاك وقال مقاتل: يقدحن بحوافرهن النار في الحجارة قال ابن عباس: يريد ضرب الخيل بحوافرها الجبل فأورت منه النار مثل الزناد إذا قدح وقال مجاهد: يريد مكر الرجال في الحروب تقول العرب إذا أراد الرجل أن يمكر بصاحبه أما والله لأورين لك بزند وار ولأقدحنَّ لك وخالف المصدر فيها صدر الكلام ومجازه فالقادحات قدحاً. وقيل: هي النيران بجمع عن محمد بن كعب. وقيل: هي ألسنة الرجال توري النار من عظيم ما تتكلم به عن عكرمة.
{ فالمغيرات صبحاً } يريد الخيل تغير بفرسانها على العدو وقت الصبح وإنما ذكر وقت الصبح لأنهم كانوا يسيرون إلى العدو ليلاً فيأتونهم صبحاً هذا قول الأكثرين. وقيل: يريد الإبل ترتفع بركبانها يوم النحر من جمع إلى مني والسنة أن لا ترتفع بركبانها حتى تصيح والإغارة سرعة السير ومنه قولهم: "أَشْرِقْ ثَبِيرُ كيما نغير" عن محمد بن كعب.
{ فأثرن به نقعاً } يقال ثار الغبار والدخان وأثرته أي هيجته والهاء في به عائد إلى معلوم يعني بالمكان أو بالوادي المعنى فهيجن بمكان عدوهنَّ غباراً { فوسطن به جمعاً } أي صرن بعدوهنَّ أو بذلك المكان وسط جمع العدو وهم الكتيبة وقال محمد بن كعب: يريد جمع منى.
{ إن الإنسان لربه لكنود } هذا جواب القسم والكنود الكفور الجحود لنعم الله عن ابن عباس وقتادة والحسن ومجاهد. وقيل: هو بلسان كندة وحضرموت العاصي وبلسان مضر وربيعة وقضاعة الكفور عن الكلبي. وقيل: هو الذي يعد المصائب وينسى النعم عن الحسن أخذه بعض الشعراء فقال:

يا أًيُّــها الظّالِـــمُ فــي فِعْلِهِ وَالظُّلْــمُ مَرْدُودٌ عَلـى مَنْ ظَلَمْ
إلــى مَتـى أَنْتَ وَحَتّى مَتى تَشْكُو الْمُصِيباتِ وَتَنْسَى النِّعَمْ

وروى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أتدرون من الكنود قالوا الله ورسوله أعلم قال الكنود الذي يأكل وحده ويمنع رفده ويضرب عبده" . وقيل: الكنود الذي لا يعطي في النائبة مع قومه عن عطاء. وقيل: هو القليل الخير عن أبي عبيدة { وإنه على ذلك لشهيد } معناه وإن الله على كفره لشهيد عن ابن عباس وقتادة وعطاء. وقيل: إن الهاء تعود إلى الإنسان والمعنى أن الإنسان شاهد على نفسه يوم القيامة بكنوده أو في الدنيا فإنك لو سألته عن النعمة لم يذكر أكثرها ويذكر جميع مصائبه وهو معنى قول الحسن { وإنه } يعني الإنسان { لحب الخير لشديد } أي لأجل حب الخير الذي هو المال أي من أجله لبخيل شحيح يمنع منه حق الله تعالى عن الحسن يقال للبخيل شديد ومتشدد قال طرفة:

أَرَى الْمَوْتَ يَعْتامُ الْكِرامَ وَيَصْطَفي عَقيلَـــةَ مـــالِ الْفاحِـــشِ الْمَتَشَدِّدِ

وقيل معناه وأنه لشديد الحب للخير أي المال عن الفراء وقال ابن زيد: سمى الله سبحانه المال خيراً وعسى أن يكون خبيثاً وحراماً ولكن لأن الناس يعدُّونه خيراً فكذلك سمى الجهاد سوءاً فقال لم يمسهم سوء أي قتال وليس هو عند الله بسوء لأن الناس يسمُّونه سوءاً وقال سبحانه على وجه التذكير والوعيد { أفلا يعلم } هذا الإنسان الذي وصفناه { إذا بعثر ما في القبور } أي بعث الموتى ونشروا وأخرجوا ومثله بحثر { وحصل ما في الصدور } أي ميّزوا بين ما فيها من الخير والشر. وقيل: معناه وأظهر ما أخفته الصدور ليجازي على السرّ كما يجازي على العلانية.
{ إن ربهم بهم يومئذٍ لخبير } قال الزجاج: الله سبحانه خبير بهم في ذلك اليوم وفي غيره ولكن المعنى أن الله يجازيهم على كفرهم في ذلك اليوم وليس يجازيهم إلا بعلمه بأحوالهم وأعمالهم ومثله قوله
{ { أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم } [النساء: 63] ومعناه أولئك الذين لا يترك الله مجازاتهم وفي هذا إشارة إلى الزجر والوعيد فإن الإنسان متى علم أن خالقه يرى جميع أعماله ويعلم سائر أفعاله ويحقق ذلك لا بدَّ أن ينزجر عن المعاصي.