التفاسير

< >
عرض

أَلْهَاكُمُ ٱلتَّكَّاثُرُ
١
حَتَّىٰ زُرْتُمُ ٱلْمَقَابِرَ
٢
كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ
٣
ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ
٤
كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ ٱلْيَقِينِ
٥
لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ
٦
ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ
٧
ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ
٨
-التكاثر

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ ابن عامر والكسائي لترون بضم التاء وروي ذلك عن علي (ع) والباقون لترون بالفتح.
الحجة: قال أبو علي: من قال لترون بضم التاء فإن رأى فعل يتعدّى إلى مفعول واحد تقول رأيت الهلال كما تقول لبست ثوبك فإذا نقلت الفعل بالهمزة زاد مفعول آخر تقول أريت زيداً الهلال فإذا بنيت هذا الفعل للمفعول قلت أري زيد الهلال وكذلك لترون الجحيم.
اللغة: الإلهاء الصرف إلى اللهو واللهو الانصراف إلى ما يدعو إليه الهوى يقال لها يلهو لهواً ولهى عن الشيء يلهى ومنه قولهم فإذا استأثر الله بشيء قاله عنه والتكاثر التفاخر بكثرة المناقب يقال تكاثر القوم إذا تعادّوا ما لهم من المناقب والزيارة إتيان الموضع كإتيان المألوف على غير إقامة زاره يزوره زيارة ومنه زوَّر تزويراً إذا شبَّه الخط بما يوهم أنه خط فلان وليس به والمزورة من ذلك اشتقَّت والفرق بين النعيم والنعمة أن النعمة كالإنعام في التضمين لمعنى منعم أنعم إنعامًا ونعمة وكلاهما موجب للشكر والنعيم ليس كذلك لأنه من نعم نعيماً فلو عمل ذلك بنفسه لكان نعيماً لا يوجب شكراً وأما النَعمة بفتح النون فمن نعم بضم العين إذا لان.
الإعراب: كلا حرف وليس باسم وتضمنه معنى ارتدع لا يدل على أنه كصه بمعنى أسكت ومه بمعنى اكفف ألا ترى أن أما تتضمن معنى مهما يكن من شيء وهو حرف فكذا كلا ينبغي أن يكون حرفاً كلا لو تعلمون جواب لو محذوف وتقديره لما ألهاكم التكاثر. وعلم اليقين مصدر. وقيل: هو قسم والتقدير وعلم اليقين لترون الجحيم أي عذاب الجحيم فحذف لأن رؤيتها ليس بوعيد وإن الوعيد برؤية عذابها وتقديره في الإعراب علم الخبر اليقين فحذف المضاف ومثله حبَّ الحصيد ولا يجوز الهمز في واو لترون ولترونها على قياس أثؤب في أثوب وأعد في وعد لأن الضمة هنا عارضة لالتقاء الساكنين وليست بلازمة وأما عين اليقين فانتصابه انتصاب المصدر أيضاً كما تقول رأيته حقاً وتبينته يقيناً والرؤية هنا بمعنى المشاهدة كما قال سبحانه
{ { وإن منكم إلا واردها } [مريم: 71].
النزول: قيل: نزلت السورة في اليهود قالوا نحن أكثر من بني فلان وبنو فلان أكثر من بني فلان ألهاهم ذلك حتى ماتوا ضلالاً عن قتادة. وقيل: نزلت في فخذ من الأنصار تفاخروا عن أبي بريدة. وقيل: نزلت في حيين من قريش بني عبد مناف بن قصي وبني سهم بن عمرو تكاثروا وعدَّوا أشرافهم فكثرهم بنو عبد مناف ثم قالوا نعد موتانا حتى زاروا القبور فعدوهم وقالوا هذا قبر فلان وهذا قبر فلان فكثرهم بنو سهم لأنهم كانوا أكثر عدداً في الجاهلية عن مقاتل والكلبي.
المعنى: { ألهاكم التكاثر } أي شغلكم عن طاعة الله وعن ذكر الآخرة التكاثر بالأموال والأولاد والتفاخر بكثرتهما { حتى زرتم المقابر } أي حتى أدرككم الموت على تلك الحال عن الحسن وقتادة وقال الجبائي: حتى متم على ذلك ولم تتوبوا. وقيل: ألهاكم التباهي بكثرة المال والعدد عن تدبّر أمر الله حتى عددتم الأموات في القبور وروى قتادة عن مطرف بن عبد الله الشخير عن أبيه قال انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: { ألهاكم التكاثر } السورة قال:
"يقول ابن آدم مالي مالي ومالَك من مالِك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت" أورده مسلم في الصحيح.
ثم ردَّ الله تعالى عليهم هذا فقال { كلا } أي ليس الأمر الذي ينبغي أن تكونوا عليه التكاثر ثم أوعدهم فقال { سوف تعلمون } ثم أكَّد ذلك وكرَّره فقال { ثم كلا سوف تعلمون } قال الحسن ومقاتل: هو وعيد بعد وعيد والمعنى سوف تعلمون عاقبة تباهيكم وتكاثركم إذا نزل بكم الموت. وقيل: معناه سوف تعلمون في القبر ثم سوف تعلمون في الحشر رواه زرّ بن حبيش عن علي (ع) قال ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت { ألهاكم التكاثر } إلى قوله { كلا سوف تعلمون } يريد في القبر ثم كلا سوف تعلمون بعد البعث. وقيل: إن المعنى كلا سوف تعلمون إذا رأيتم دار الأبرار ثم كلا سوف تعلمون إذا رأيتم دار الفجار والعرب تؤكّد بكلاّ وحقّاً.
{ كلا لو تعلمون علم اليقين } هذا كلام آخر يقول لو تعلمون الأمر علماً يقيناً لشغلكم ما تعلمون عن التفاخر والتباهي بالعز والكثرة وعلم اليقين هو العلم الذي يثلج به الصدر بعد اضطراب الشك فيه ولهذا لا يوصف الله بأنه متيقن.
ثم استأنف سبحانه وعيداً آخر فقال { لترون الجحيم } على نية القسم عن مقاتل يعني حين تبرز الجحيم في القيامة قبل دخولهم إليها { ثم لترونها } يعني بعد الدخول إليها { عين اليقين } كما يقال حق اليقين ومحض اليقين ومعناه ثم لترونها بالمشاهدة إذا دخلتموها وعذبتم بها.
{ ثم لتسئلن يومئذٍ عن النعيم } قال مقاتل: يعني كفار مكة كانوا في الدنيا في الخير والنعمة فيسألون يوم القيامة عن شكر ما كانوا فيه إذ لم يشكروا رب النعيم حيث عبدوا غيره وأشركوا به ثم يعذبون على ترك الشكر وهذا قول الحسن قال لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار وقال الأكثرون: إن المعنى ثم لتسئلن يا معاشر المكلفين عن النعيم قال قتادة: إن الله سائل كل ذي نعمة عما أنعم عليه. وقيل: عن النعيم في المأكل والمشرب وغيرهما من الملاذ عن سعيد بن جبير. وقيل: النعيم الصحة والفراغ عن عكرمة ويعضده ما رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ" . وقيل: هو الأمن والصحة عن عبد الله بن مسعود ومجاهد وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع). وقيل: يسأل عن كل نعيم إلا ما خصَّه الحديث وهو قوله "ثلاث لا يسأل عنها العبد خرقة يواري بها عورته أو كسرة يسدُّ بها جوعته أو بيت يكنّه من الحرّ والبرد" .
وروي أن بعض الصحابة أضاف النبي صلى الله عليه وسلم مع جماعة من أصحابه فوجدوا عنده تمراً وماء بارداً فأكلوا فلما خرجوا قال هذا من النعيم الذي تسألون عنه وروى العياشي بإسناده في حديث طويل قال سأل أبو حنيفة أبا عبد الله (ع) عن هذه الآية فقال له ما النعيم عندك يا نعمان قال القوت من الطعام والماء البارد فقال لئن أوقفك الله يوم القيامة بين يديه حتى يسألك عن كل أكلة أكلتها وشربة شربتها ليطولنَّ وقوفك بين يديه قال فما النعيم جعلت فداك قال نحن أهل البيت النعيم الذي أنعم الله بنا على العباد وبنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين وبنا ألف الله بين قلوبهم وجعلهم إخواناً بعد أن كانوا أعداء وبنا هداهم الله للإسلام وهي النعمة التي لا تنقطع والله سائلهم عن حق النعيم الذي أنعم الله به عليهم وهو النبي صلى الله عليه وسلم وعترته.