القراءة: قرأ أبو جعفر ليلاف قريش بغير همز إلافهم مختلسة الهمزة ليس بعدها ياء وقرأ ابن عامر لئلاف قريش مختلسة الهمزة ليس بعدها ياء إيلافهم مشبعة الهمزة في الحرفين بعدها ياء. وقرأ ابن فليح لإِيلاف قريش الفهم ساكنة اللام ليس بعدها ياء وقرأ الآخرون لإِيلاف قريش إيلافهم مشبعة الهمزة في الحرفين بعدها ياء.
الحجة: قال أبو علي: قال أبو عبيدة: ألفته وآلفته لغتان أنشد أبو زيد:
مِــنَ الْمُولِفــاتِ الرَّمْلِ أدْماءُ حُرَّةٌ شُعاعُ الضُّحى فِي جِيدِها يتوضحُ
وأنشد غيره:
ألِفَ الصُّفُونَ فَلا يَزالُ كَأَنَّهُ مِمّا يَقُومُ عَلَى الثَّلاثِ كَسِيرا
وقال آخر:
زَعَمْتُمْ أنَّ إخْوَتَكُمْ قُرَيْشٌ لَهُمْ إلْفٌ وَلَيْسَ لَكُمْ إلافُ
والألف والآلاف مصدر ألف والإِيلاف مصدر آلف.
اللغة: الإِيلاف إيجاب الألف بحسن التدبير والتلطف يقال ألف يألف إلفاً وآلفه يؤلفه إيلافاً إذا جعله يألف فالإِيلاف نقيض الإِيحاش ونظيره الإِيناس وألف الشيء لزومه على عادة في سكون النفس إليه. والرحلة حال السير على الراحلة وهي الناقة القوية على السير ومنه الحديث المروى: " الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة" " والرحل متاع السفر والارتحال احتمال الرحل للسير في السفر.
الإعراب: قال أبو الحسن الأخفش: اللام في قوله { لإِيلاف قريش } يتعلق بقوله { { كعصف مأكول } [الفيل: 5] أي فعلنا ذلك بهم لتأتلف قريش رحلتها وقال الزجاج: معناه أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش وما قد ألفوا من رحلة الشتاء والصيف قال أبو علي: اعترض معترض فقال إنما جعلوا كعصف مأكول لكفرهم ولم يجعلوا كذلك لتألف قريش قال وليس هذا الاعتراض بشيء لأنه يجوز أن يكون المعنى أهلكوا لكفرهم ولما أدَّى إهلاكهم إلى أن تألف قريش جاز كقوله تعالى { { ليكون لهم عدواً وحزناً } [القصص: 8] وهم لم يلتقطوه لذلك فلما آل الأمر إليه حسن أن يجعله علة الالتقاط وقال الخليل وسيبويه: فليعبدوا ربَّ هذا البيت لإِيلاف قريش أي ليجعلوا عبادتهم شكراً لهذه النعمة واعترافاً بها. وقيل: هو على ألم تر كيف فعل ربك لإِيلاف قريش عن الفراء لأنه سبحانه ذكر أهل مكة عظيم نعمته عليهم فيما صنع بالحبشة.
المعنى: { لإِيلاف قريش } أي فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منّا على قريش مضافة إلى نعمتنا عليهم في رحلة الشتاء والصيف فكأنه قال نعمة: إلى نعمة فتكون اللام مؤدية معنى إلى وهو قول الفراء. وقيل: معناه فعلنا ذلك لتألف قريش بمكة ويمكنهم المقام بها أو لتؤلف قريشاً فإنهم هابوا من أبرهة لما قصدها وهربوا منه فأهلكناهم لترجع قريش إلى مكة ويألفوا بها ويولد محمد صلى الله عليه وسلم فيبعث إلى الناس بشيراً ونذيراً وقوله { إيلافهم } ترجمة عن الأول وبدل منهم.
{ رحلة الشتاء والصيف } منصوبة بوقوع إيلافهم عليها وتحقيقه أن قريشاً كانت بالحرم آمنة من الأعداء أن تهجم عليهم فيه وأن يعرض لهم أحد بالسوء إذا خرجت منه لتجارتها والحرم وادٍ جديب إنما كانت تعيش قريش فيه بالتجارة وكانت لهم رحلتان في كل سنة رحلة في الشتاء إلى اليمن لأنها بلاد حامية ورحلة في الصيف إلى الشام لأنها بلاد باردة ولولا هاتان الرحلتان لم يمكنهم به مقام ولولا الأمن لم يقدروا على التصرف فلما قصد أصحاب الفيل مكة أهلكهم الله لتألف قريش هاتين الرحلتين اللتين بهما معيشتهم ومقامهم بمكة. وقيل: إن كلتا الرحلتين كانت إلى الشام ولكن رحلة الشتاء في البحر وأيلة طلباً للدفء ورحلة الصيف إلى بُصرى واذرعات طلباً للهواء.
وأما قريش فهم ولد النضر بن كنانة فكل من ولده النضر فهو قرشي ومن لم يلده النضر فليس بقرشي واختلف في تسميتهم بهذا الاسم فقيل سموا قريشاً للتجارة وطلب المال وجمعه وكانوا أهل تجارة ولم يكونوا أصحاب ضرع ولا زرع والقرش المكسب يقال هو يقرش لعياله أي يكتسب لهم وذكر أنه قيل لابن عباس لم سميت قريش قريشاً فقال لدابة تكون في البحر من أعظم دوابه يقال لها القريش لا تمر بشيء من الغث والسمين إلا أكلته قيل أفتنشد في ذلك شيئاً فأنشد قول الجمحي:
وَقُرَيْشٌ هِيَ الَّتِي تَسْكُنُ الْبَحْرَ بِهــا سُمِّيَــتْ قُرَيْـــشٌ قُرَيْشا
تَأَكُــلُ الْغَـثَّ والسَّمينَ وَلا تَتْــرُك فيهِ لَدَى الْحَناجِرِ ريشا
وكانت قريش تعيش بتجارتهم ورحلتهم وكان لا يتعرض لهم أحد بسوء وكانوا يقولون قريش سْكّان حرم الله وولاة بيته قال الكلبي: وكان أول من حمل الميرة من الشام ورحل إليها الإبل هاشم بن عبد مناف ويصدقه قول الشاعر:
تَحَمَّلَ هاشِمٌ ما ضــــاقَ عَنْهُ وَعْيــا أَنْ يَقُومَ بِهِ ابْـنُ بِيضِ
أَتاهُــمْ بِالْغَرائِــرِ مُتَأْقاتٍ مـِنْ أَرْضِ الشَّامِ بِالْبُرِّ النَّقيضِ
فَوَسَّعَ أَهْلَ مَكَّةَ مِنْ هَشيــمٍ وَشــابَ الْبُـرَّ بِاللَّحْمِ الْغَرِيضِ
وقال سعيد بن جبير: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر بملأ وهم ينشدون:
يا ذَا الَّذي طَلَبَ السَّمَاحَةَ والنَّدى هـَـلاّ مَــــرَرْتَ بِآلِ عَبْــدِ الدَّارِ
لَـوْ أَنْ مَـــرَرْتَ بِِهِمْ تُرِيدُ قِراهُمُ مَنَعُـــوكَ مِــــنْ جَهْدٍ وَمِنْ إقْتارِ
فقال لأبي بكر أهكذا قال الشاعر فقال لا والذي بعثك بالحق بل قال:
يا ذَا الَّذِي طَلَبَ السَّمَاحَةَ والنَّدَى هَلاّ مَــرَرْت بِآلِ عَبْــدِ مَنافِ
لَـوْ أَنْ مَــرَرْتَ بِِهِمْ تُرِيدُ قِراهُمُ مَنَعُـــوكَ مِــــنْ جُهْدٍ وَمِنْ إيجافِ
الرّائشيــنَ وَلَيْـــسَ يُوجَدُ رَاِئشٌ وَالْقَائِلــينَ هَلُــــمَّ لِلأَضْيــــافِ
والْخَالِطِــينَ غَنِيَّهُـــــمْ بفقِيرِهِمْ حَتّــى يَصِيـــرَ فَقِيرَهُمُ كَالْكافِي
وَالْقَائِلِــينَ بِكُــــلِّ وَعْدٍ صادِقٍ وَرِجَـالُ مَكَّـــةَ مُسْنتِيـــنَ عِجافِ
سَفَرَيْــنِ سَنَّهُمَـــا لَهُ وَلِقَوْمِهِ سَفَـــرَ الشِّتَـــاءِ وَرِحْلَةَ الأصْيافِ
{ فليعبدوا ربَّ هذا البيت } هذا أمر من الله سبحانه أي فليوجّهوا عبادتهم إلى رب هذه الكعبة ويوحّدوه وهو الله سبحانه { الذي أطعمهم من جوع } بما سبَّب لهم من الأرزاق في رحلة الشتاء والصيف وأعطاهم من الأموال { وآمنهم من خوف } فلا يتعرض لهم أحد في سفرهم إذا قالوا نحن أهل حرم الله. وقيل: آمنهم من خوف الغارة بالحرم الذي جبلت قلوب الناس على تعظيمه لأنهم كانوا يقولون في الجاهلية نحن قطان حرم الله فلا يتعرض لهم وإن كان الرجل ليصاب في الحي من أحياء العرب فيقال هو حرمي فيخلّي عنه وعن ماله تعظيماً للحرم وكان غيرهم إذا خرج أغير عليه. وقيل: أطعمهم من جوع أي من بعد جوع كما يقال كسوتك من بعد عري يعني ما كانوا فيه من الجوع قال ابن عباس: كانوا في ضرّ ومجاعة حتى جمعهم هاشم على الرحلتين فلم يكن بنو أب أكثر مالاً ولا أعزّ من قريش.