التفاسير

< >
عرض

قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ
١
لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ
٢
وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ
٣
وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ
٤
وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ
٥
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ
٦
-الكافرون

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ نافع وابن كثير وحفص عن عاصم ليَ دين بفتح الياء والباقون بسكون الياء.
الحجة: إسكان الياء من ولي وفتحها جميعاً حسنان سائغان.
الإعراب: ولا أنتم عابدون ما أعبد كان الوجه من أعبد ولكنه جاء بما ليطابق ما قبله وما بعده. وقيل: إن ما ها هنا بمعنى مَن والعائد من الصلة إلى الموصول في الجميع محذوف والتقدير ما تعبدونه وما أعبده وما عبدتموه.
النزول: نزلت السورة في نفر من قريش منهم الحارث بن قيس السهمي والعاص بن أبي وائل والوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث الزهري والأسود بن المطلب بن أسد وأمية بن خلف قالوا هلم يا محمد فاتبع ديننا نتّبع دينك ونشركك في أمرنا كله تعبد إلهتنا سنة ونعبد آلهك سنة فإن كان الذي جئت به خير مما بأيدينا كنّا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه وإن كان الذي بأيدينا خيراً مما في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه فقال صلى الله عليه وسلم:
"معاذ الله أن أشرك به غيره" قالوا فاستلم بعض آلهتنا نصدّقك ونعبد إلهك فقال حتى أنظر ما يأتي من عند ربي فنزل { قل يا أيها الكافرون } والسورة فعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقام على رؤوسهم ثم قرأ عليهم حتى فرغ من السورة فأيسوا عند ذلك فآذوه وآذوا أصحابه قال ابن عباس: وفيهم نزل قوله { { قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } [الزمر: 64].
المعنى: خاطب سبحانه النبي صلى الله عليه وسلم فقال { قل } يا محمد { يا أيها الكافرون } يريد قوماً معينين لأن الألف واللام للعهد { لا أعبد ما تعبدون } أي لا أعبد آلهتكم التي تعبدونها اليوم وفي هذه الحال { ولا أنتم عابدون ما أعبد } أي إلهي الذي أعبده اليوم وفي هذه الحال أيضاً { ولا أنا عابد ما عبدتم } فيما بعد اليوم { ولا أنتم عابدون ما أعبد } فيما بعد اليوم من الأوقات المستقبلة عن ابن عباس ومقاتل قال الزجاج: نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه السورة عبادة آلهتهم عن نفسه في الحال وفيما يستقبل ونفى عنهم عبادة الله في الحال وفيما يستقبل وهذا في قوم أعلمه الله سبحانه أنهم لا يؤمنون كقوله سبحانه في قصة نوح (ع) أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن. وقيل أيضاً في وجه التكرار أن القرآن نزل بلغة العرب ومن عادتهم تكرير الكلام للتأكيد والإفهام فيقول المجيب بلى بلى ويقول الممتنع لا لا عن الفراء قال ومثله قوله تعالى
{ { كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون } [التكاثر: 3, 4] وأنشد:

وَكَائِنْ وَكَمْ عِنْدِي لَهُمْ مِنْ صَنِيعةٍ أَيـــادِيَ ثَنَّوها عَلَــــيَّ وَأَوْجَبُوا

وأنشد:

كَــــمْ نِعْمـــــة كانَتْ لَكُـــمْ كَـــــمْ كَـــــــمْ وَكَــــــمْ

وقال آخر:

نَعِقَ الْغُرابُ بِبَيْنِ لَيْلى غُدْوَةً كَـــمْ كَـــمْ وَكَــمْ بِفِراق لَيْلــى يَنْعـِـقُ

وقال آخر:

هـَـلاّ سَــأَلْـتَ جُـمُـــوعَ كِـنْـ ــدَةَ يَــــوْمَ ولَّــــوْا أَيْــــنَ أَيْنـــــا

وقال آخر:

أَرَدْتُ لِنَفْسِي بَعْضَ الأُمُورِ فَأَولــى لِنَفْسِـــــي أُوْلى لَــها

وقال: وهذا أولى المواضع بالتأكيد لأن الكافرين أبدوا في ذلك وأعادوا فكرَّر سبحانه ليؤكّد إياسهم وحسم أطماعهم بالتكرير. وقيل أيضاً في ذلك إن المعنى لا أعبد الأصنام التي تعبدونها ولا أنتم عابدون الله الذي أنا عابده إذا أشركتم به واتخذتم الأصنام وغيرها تعبدونها من دونه وإنما يعبد الله من أخلص العبادة له ولا أنا عابد ما عبدتم أي لا أعبد عبادتكم فيكون ما مصدرية { ولا أنتم عابدون ما أعبد } أي وما تعبدون عبادتي على نحو ما ذكرناه فأراد في الأول المعبود وفي الثاني العبادة فإن قيل: أما اختلاف المعبودين فمعلوم فما معنى اختلاف العبادة.
قلنا إنه يعبد الله على وجه الإخلاص وهم يشركون به في عبادته فاختلفت العبادتان ولأنه كان يتقرب بعبادته إلى معبوده بالأفعال المشروعة الواقعة على وجه العبادة وهم لا يفعلون ذلك وإنما يتقرَّبون إليه بأفعال يعتقدونها قربة جهلاً من غير شرع.
{ لكم دينكم ولي دين } ذكر فيه وجوه أحدها: أن معناه لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه وثانيها: أن المعنى لكم كفركم بالله ولي دين التوحيد والإخلاص وهذا وإن كان ظاهره إباحة فإنه وعيد وتهديد ومبالغة في النهي والزجر كقوله
{ { اعملوا ما شئتم } [فصلت: 40] وثالثها: أن الدين الجزاء ومعناه لكم جزاؤكم ولي جزائي قال الشاعر:

إذا مـــا لَقونا لقيناهـــــم وَدِنَّاهُمُ مِثْلَ ما يَقْرِضُـونــا

وقد تضمنت السورة معجزة لنبينا صلى الله عليه وسلم من جهة الإخبار بما يكون في الأوقات المستقبلة مما لا سبيل إلى علمه إلا بوحي من قبل الله سبحانه العالم بالغيوب فكان ما أخبر به كما أخبر وفيها دلالة على ذم المداهنة في الدين ووجوب مخالفة الكفار والمبطلين والبراءة منهم وروى داود بن الحصين عن أبي عبد الله (ع) قال إذا قرأت { قل يا أيها الكافرون } فقل أيها الكافرون وإذا قلت { لا أعبد ما تعبدون } فقل أعبد الله وحده وإذا قلت لكم دينكم ولي دين فقل ربي الله وديني الإسلام.