التفاسير

< >
عرض

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلْفَلَقِ
١
مِن شَرِّ مَا خَلَقَ
٢
وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ
٣
وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّاثَاتِ فِي ٱلْعُقَدِ
٤
وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ
٥
-الفلق

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: أصل الفلق الفرق الواسع من قولهم فلق رأسه بالسيف يفلقه فلقاً ويقال أبين من فلق الصبح وفرق الصبح لأن عموده ينفلق بالضياء عن الظلام والغاسق في اللغة الهاجم بضرره وهو ها هنا الليل لأنه يخرج السباع من آجامها والهوام من مكامنها فيه يقال غسقت القرحة إذا جرى صديدها ومنه الغساق صديد أهل النار لسيلانه بالعذاب وغسقت عينه سال دمعها. التقوب: الدخول وقب يقب ومنه الوقبة النقرة لأنه يدخل فيها النفث شبيهة بالنفخ وأما التفل فنفخ بريق فهذا الفرق بين النفث والتفل قال الفرزدق:

هُما نَفَثا فِي فِــيَّ مِنْ فَمَوَيْهِما عَلَى النّافِثِ الْعاوِي أَشَدُّ رِجامِ

الحاسد الذي يتمنى زوال النعمة عن صاحبها وإن لم يردها لنفسه فالحسد مذموم والغبطة محمودة وهي أن يريد من النعمة لنفسه مثل ما لصاحبه ولم يرد زوالها عنه.
النزول: قالوا إن لبيد بن أعصم اليهودي سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دسَّ ذلك في بئر لبني زريق فمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا هو نائم إذ أتاه ملكان فقعدا أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه فأخبراه بذلك وأنه في بئر دروان في جف طلعة تحت راعوفة والجف قشر الطلع والراعوفة حجر في أسفل البئر يقوم عليها الماتح فانتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث علياً (ع) والزبير وعمار فنزحوا ماء تلك البئر ثم رفعوا الصخرة وأخرجوا الجف فإذا فيه مشاطة رأس وأسنان من مشطه وإذا فيه معقد فيه إحدى عشرة عقدة مغروزة بالأبر فنزلت هاتان السورتان فجعل كلما يقرأ آية انحلت عقدة ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة فقام فكأنما أنشط من عقال وجعل جبرائيل (ع) يقول: "باسم الله أرقيك من شرّ كل شيء يؤذيك من حاسد وعين الله تعالى يشفيك".
ورووا ذلك عن عائشة وابن عباس وهذا لا يجوز لأن من وصف بأنه مسحور فكأنه قد خبل عقله وقد أبى الله سبحانه ذلك في قوله
{ { وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً } [الفرقان: 8] أنظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا ولكن يمكن أن يكون اليهودي أو بناته على ما روي اجتهدوا في ذلك فلم يقدروا عليه وأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ما فعلوه من التمويه حتى استخرج وكان ذلك دلالة على صدقه وكيف يجوز أن يكون المرض من فعلهم ولو قدروا على ذلك لقتلوه وقتلوا كثيراً من المؤمنين مع شدة عداوتهم له.
المعنى: { قل أعوذ برب الفلق } هذا أمر من الله سبحانه لنبيّه صلى الله عليه وسلم والمراد جميع أمته ومعناه قل يا محمد اعتصم وامتنع برب الصبح وخالقه ومدبّره ومطلعه متى شاء على ما يرى من الصلاح فيه { من شر ما خلق } من الجن والإنس وسائر الحيوانات وإنما سمي الصبح فلقاً لانفلاق عموده بالضياء عن الظلام كما قيل له فجر لانفجاره بذهاب ظلامه وهذا قول ابن عباس وجابر والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة. وقيل: الفلق المواليد لأنهم ينفلقون بالخروج من أصلاب الآباء وأرحام الأمهات كما ينفلق الحبّ من النبات. وقيل: الفلق جب في جهنم يتعوذ أهل جهنم من شدة حرّه عن السدي ورواه أبو حمزة الثمالي وعلي بن إبراهيم في تفسيريهما وقوله { ما خلق } عام في جميع ما خلقه الله تعالى ممن يجوز أم يحصل منه الشر وتقديره من شرّ الأشياء التي خلقها الله تعالى مثل السباع والهوام والشياطين وغيرها.
{ ومن شر غاسق إذا وقب } أي ومن شر الليل إذا دخل بظلامه عن ابن عباس والحسن ومجاهد وعلى هذا فيكون المراد من شرّ ما يحدث في الليل من الشر والمكروه كما يقال أعوذ من شر هذه البلدة وإنما اختصّ الليل بالذكر لأن الغالب أن الفساق يقدمون على الفساد بالليل وكذلك الهوام والسباع تؤذي فيه أكثر وأصل الفسق الجريان بالضرر. وقيل: إن معنى الفاسق كل هاجم بضرره كائناً ما كان.
{ ومن شرّ النفاثات في العقد } معناه ومن شر النساء الساحرات اللاتي ينفثن في العقد عن الحسن وقتادة وإنما أمر بالتعوذ من شر السحرة لإِيهامهم أنهم يمرضون ويصحون ويفعلون شيئاً من النفع والضرر والخير والشر وعامة الناس يصدّقونهم فيعظم بذلك الضرر في الدين ولأنهم يوهمون أنهم يخدمون الجن ويعلمون الغيب وذلك فساد في الدين ظاهر فلأجل هذا الضرر في الدين أمر بالتعوذ من شرهم.
وقال أبو مسلم: النفاثات النساء. اللاتي يملن آراء الرجال ويصرفنهم عن مرادهم ويردّونهم إلى آرائهن لأن العزم والرأي يعبّر عنهما بالعقد فعبّر عن حلّها بالنفث فإن العادة جرت أنَّ من حلّ عقد نفث فيها.
{ ومن شر حاسد إذا حسد } فإنه يحمله الحسد على إيقاع الشر بالمحسود فأمر بالتعوذ من شرّه. وقيل: إنه أراد من شرّ نفس الحاسد ومن شرّ عينه فإنه ربما أصاب بهما فعاب وضر وقد جاء في الحديث:
"إن العين حق" وقد مضى الكلام فيه وروي أن العضباء ناقة للنبي صلى الله عليه وسلم لم تكن تسبق فجاء أعرابي على قعود له فسابق بها فسبقها فشقّ ذلك على الصحابة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "حقّ على الله عز وجل ألاّ يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه" وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " "من رأى شيئاً يعجبه فقال الله الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضر شيئاً " وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما يعوذ الحسن والحسين (ع) بهاتين السورتين وقال بعضهم: إن الله سبحانه جمع الشرور في هذه السورة وختمها بالحسد ليعلم أنه أخس الطبائع نعوذ بالله منه.