التفاسير

< >
عرض

يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ
٣٩
مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
٤٠
يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا ٱلآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ
٤١
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا ٱذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ ٱلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي ٱلسِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ
٤٢
-يوسف

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: الصاحب الملازم لغيره على وجه الاختصاص وهو خلاف ملازمة الاتصال ومنه أصحاب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لملازمتهم له وكونهم معه في حروبه وصاحبا السجن هما الملازمان له بالكون فيه والقيم المستقيم وأصله من قام يقوم والاستفتاء طلب الفتيا والبضع القطعة من الدهر وأصله من القطع والبضعة القطعة من اللحم ومنه الحديث: "فاطمة بضعة مني يؤذيني من آذاها".
المعنى: { يا صاحبي السجن } هذا حكاية نداء يوسف للمستفتين له عن تأويل رؤياهما أي يا ملازمي السجن { أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار } أي أأملاك متباينون من حجر وخشب لا تضرُّ ولا تنفع خير لمن عبدها أم الله الواحد القهار الذي إليه الخير والشر والنفع والضر وهذا ظاهره الاستفهام والمراد به التقرير وإلزام الحجة والقاهر هو القادر الذي لا يمتنع عليه شيء ما { ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } ابتدأ بخطاب اثنين ثم خاطب بلفظ الجمع لأنه قصد جميع من هو في مثل حالهما. وقيل: إنه خطاب لجميع من في الحبس ومعناه أن هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله وسميتموها بأسماء يعني الأرباب والآلهة هي أسماء فارغة عن المعاني لا حقيقة لها ما أنزل الله من حجة بعبادتها.
{ إن الحكم إلا لله } أي ما الحكم والأَمر إلا لله فلا يجوز العبادة والخضوع والتذلل إلا لله { أمر ألا تعبدوا إلا إياه } أي وقد أمركم أن لا تعبدوا غيره { ذلك } أي ذلك الذي بيَّنت لكم من توحيده وعبادته وترك عبادة غيره { الدين القيم } أي الدين المستقيم الذي لا عوج فيه { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } قال ابن عباس: ما للمطيعين من الثواب وللعاصين من العقاب. وقيل: لا يعلمون صحة ما أقوله لعدولهم عن النظر والاستدلال.
ثم عبَّر (ع) رؤياهما فقال: { يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمراً } بدأ بما هو الأهم وهو الدعاء إلى توحيد الله وعبادته وإظهار معجزته ثم بتعبير رؤيا الساقي فروي أنه قال: أما العناقيد الثلاثة فإنها ثلاثة أيام تبقى في السجن ثم يخرجك الملك اليوم الرابع وتعود إلى ما كنت عليه وأجرى على مالكه صفة الرب لأنه عبده فأضافه إليه كما يقال رب الدار ورب الضيعة { وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه } يريد بالآخر صاحب الطعام روي أنه قال: بئس ما رأيت أما السلال الثلاث فإنها ثلاثة أيام تبقى في السجن ثم يخرجك الملك فيصلبك فتأكل الطير من رأسك فقال عند ذلك ما رأيت شيئاً وكنت العب فقال يوسف { قضي الأمر الذي فيه تستفتيان } أي فرغ من الأمر الذي تسألان وتطلبان معرفته وما قلته لكما فإنه نازل بكما وهو كائن لا محالة وفي هذا دلالة على أنه كان يقول ذلك على جهة الإخبار عن الغيب بما يوحى إليه لا كما يعبر أحدنا الرؤيا على جهة التأويل.
{ وقال } يوسف { للذي ظنّ أنه ناج منهما } معناه للذي علم من طريق الوحي أنه ناج أي متخلص كما في قولـه تعالى:
{ إني ظننت أني ملاق حسابيه } [الحاقة: 20] هذا قول الأكثرين واختيار الجبائي وقال قتادة للذي ظنه ناجياً لأنه لا يحكم بصدقه فيما قصَّه من الرؤيا والأول أصح { اذكرني عند ربك } أي اذكرني عند سيدك بأني محبوس ظلماً { فأنساه الشيطان ذكر ربه } يعني أنسى الشيطان يوسف ذكر الله تعالى في تلك الحال حتى استغاث بمخلوق فالتمس من الناجي منهما أن يذكره عند سيده وكان من حقه أن يتوكل في ذلك على الله سبحانه { فلبث في السجن بضع سنين } أي سبع سنين عن ابن عباس وروي ذلك عن علي بن الحسين (ع) وأبي عبد الله (ع) وقيل: معناه فأنسى الشيطان الساقي ذكر يوسف عند الملك فلم يذكره حتى لبث في السجن عن الحسن ومحمد بن إسحاق والجبائي وأبي مسلم وعلى هذا فتقديره فأنساه الشيطان ذكر يوسف عند ربه.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: عجبت من أخي يوسف (ع) كيف استغاث بالمخلوق دون الخالق وروي أنه صلى الله عليه وسلم. قال:
"لولا كلمته ما لبث في السجن طول ما لبث" يعني قوله { اذكرني عند ربك } ثم بكى الحسن وقال: "إنا إذا أنزل بنا أمر فزعنا إلى الناس" وروي عن أبي عبد الله (ع). قال: جاء جبرائيل (ع) فقال: يا يوسف من جعلك أحسن الناس. قال: ربي. قال: فمن حبَّبك إلى أبيك دون إخوانك. قال: ربي. قال: فمن ساق اليك السيارة. قال: ربي. قال: فمن صرف عنك الحجارة. قال: ربي. قال: فمن أنقذك من الجب. قال: ربي. قال: فمن صرف عنك كيد النسوة. قال: ربي. قال: فإنَّ ربك يقول: ما دعاك إلى أن تنزل حاجتك بمخلوق دوني، البث في السجن بما قلت بضع سنين وعنه في رواية أخرى قال: فبكى يوسف عند ذلك حتى بكى لبكائه الحيطان فتأذى ببكائه أهل السجن فصالحهم على أن يبكي يوماً ويسكت يوماً فكان في اليوم الذي يسكت أسوء حالاً والقول في ذلك أن الاستعانة بالعباد في دفع المضار والتخلص من المكاره جائز غير منكر ولا قبيح بل ربما يجب ذلك وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يستعين فيما ينوبه بالمهاجرين والأنصار وغيرهم ولو كان قبيحاً لم يفعله فلو صحت هذه الروايات فإنما عوتب يوسف عليه السلام في ترك عادته الجميلة في الصبر والتوكل على الله سبحانه في كل أموره دون غيره وقتاً ما ابتلاء وتشديداً وإنما كان يكون قبيحاً لو ترك التوكل على الله سبحانه واقتصر على غيره وفي هذا ترغيب في الاعتصام بالله تعالى والاستعانة به دون غيره عند نزول الشدائد وإن جاز أيضاً أن يستعان بغيره.
واختلف في البضع. فقال بعضهم: البضع ما بين الثلاث إلى الخمس عن أبي عبيده. وقيل: إلى السبع عن قطرب. وقيل: إلى التسع عن الأصمعي. ذكره الزجاج وقول قطرب مروي عن مجاهد. وقول الأصمعي مروي عن قتادة. وقال ابن عباس: وهو ما دون العشرة وأكثر المفسرين على أن البضع في الآية سبع سنين. قال الكلبي: وهذه السبع سوى الخمسة التي كانت قبل ذلك وروي عن أبي عبد الله (ع) قال: علَّم جبرائيل (ع) يوسف في حبسه فقال قل في دبر كل صلاة فريضة اللهم اجعل لي فرجاً ومخرجاً وارزقني من حيث احتسب ومن حيث لا أحتسب وروى شعيب العقرقوفي عنه (ع) قال: لما انقضت المدة وأذن له في دعاء الفرج وضع خدَّه على الأرض ثم قال: اللهم إن كانت ذنوبي قد أخلقت وجهي عندك فإني أتوجه إليك بوجوه آبائي الصالحين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ففرَّج الله عنه قال: فقلت له جعلت فداك أندعو نحن بهذا الدعاء. فقال: ادعوا بمثله اللهم إن كانت ذنوبي قد أخلقت عندك وجهي فإني أتوجه إليك بوجه نبيك نبي الرحمة وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة عليهم السلام.