التفاسير

< >
عرض

قَالُوۤاْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ
٧٧
قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ
٧٨
قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّـآ إِذاً لَّظَالِمُونَ
٧٩
فَلَمَّا ٱسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ ٱللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ ٱلأَرْضَ حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِيۤ أَبِيۤ أَوْ يَحْكُمَ ٱللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ
٨٠
-يوسف

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: اليأس قطع الطمع من الأمر. يقال: يئس ييأس وأيس يأيس لغة واستفعل مثل استيأس واستأيس وروى أبو ربيعة عن البزي عن ابن كثير استيأسوا منه واستيأس الرسل ويئس واستيأس بمعنى مثل سخر واستسخر وعجب واستعجب والنجي القوم يتناجون الواحد والجمع فيه سواء قال سبحانه: { وقربناه نجياً } [مريم: 52] وإنما جاز ذلك لأنه مصدر وصف به والمناجاة المسارة وأصله من النجوة وهو المرتفع من الأرض فإنه رفع السر من كل واحد إلى صاحبه في خفية والنجوى يكون اسماً ومصدراً قال سبحانه وإذ هم نجوى أي يتناجون وقال في المصدر إنما النجوى من الشيطان وجمع النجي أنجية قال:

إنّــي إذا مـــا القَــوْمُ كــانُــوا أنْـجِـيَــهْ

وبرح الرجل براحاً إذا تنحى عن موضعه.
الإعراب: قولـه { فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم } قال الزجاج: هذا إضمار على شريطة التفسير لأن قوله تعالى { أنتم شرُّ مكاناً } بدل من ها في أسرها والمعنى { فأسَّرها يوسف في نفسه } قوله { أنتم شرُّ مكاناً } قال أبو علي إن الإضمار على شريطة التفسير يكون على ضربين:
أحدهما: أن يفسر بفرد نحو نعم رجلاً فقولك رجلاً زيد تفسير للرجل الذي هو فاعل نعم وقد أضمر.
والآخر: أن يفسر بجملة وأصل هذا يقع في الابتداء كقولـه
{ {

فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا } } [الأنبياء: 97] و { { قل هو الله أحد } } [الإخلاص: 2] المعنى القصة إبصار الذين كفروا شاخصة والأمر الله أحد ثم تدخل عوامل المبتدأ عليه نحو كان وأخواتها وإن وأخواتها فينتقل هذا الضمير من الابتداء بها كما ينتقل سائر المبتدآت كقوله { { إنه من يأت ربه مجرماً } [طه: 74] فإنها لا تعمى الأبصار وقول الشاعر:

وليــس منهــا شفــاء الـــداء مبــــذول

والذي ذهب أبو إسحاق فيه إلى أنه مضمر على شريطة التفسير ليس بمبتدأ فيلزمه التفسير بالجملة ألا ترى أنها فضلة مذكورة بعد فعل وفاعل وهو قوله أسر فإذا كان مبانياً لما أصله المبتدأ لم يجز أن يفسر تفسيره وأيضاً فإن المضمر على شريطة التفسير لا يكون الا متعلقاً بالجملة التي يفسرها ولا يكون منقطعاً عنها ولا متعلقاً بجملة غيرها وما ذكره أبو إسحاق فالتفسير فيه منفصل عن الجملة التي فيها الضمير الذي زعم أنه إضمار على شريطة التفسير فخرج بذلك عما يكون عليه الإضمار قبل التفسير.
فإن قلت فعلى ما نحمل الضمير في أسرَّها قلنا يحتمل أن يكون إضماراً للإجابة كأنهم لما قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل أسر يوسف إجابتهم في نفسه ولم يبدها لهم في الحال وجاز إضمار ذلك لأنه دلَّ ما تقدَّم من مقالتهم عليه وجاز أن يكون إضماراً للمقالة كأنه أسرَّ يوسف مقالتهم لأن القول والمقالة واحد ويكون معنى المقالة المقول، كما أن الخلق عبارة عن المخلوق أي أكنها في نفسه وأوعاها ولم يطرحها ارادة للتوبيخ عليها والمجازاة بها انتهى تلخيص كلام أبي علي وقولـه { شيخاً } صفة الأب والكبير صفة الشيخ ومعاذ الله منصوب على المصدر والعرب تقول معاذ الله ومعاذة الله وعوذنا الله وعوذة الله وعياذ الله. ويقولون: اللهم عائذاً بك أي أدعوك عائذاً بك وأن تأخذ في موضع نصب والمعنى أعوذ بالله من أخذ أحد إلا من وجدنا متاعنا عنده فلما سقطت من أفضى الفعل فنصب عن الزجاج.
وقولـه { إنا إذاً لظالمون } فيه معنى الجزاء أي إن أخذنا غيره فنحن ظالمون ونجيا نصب على الحال وما في قولـه ما فرطتم لغواي ومن قبل فرطتم ويجوز أن تكون مصدرية في موضع رفع بمعنى تفريطكم واقع من قبل فيكون ما فرطتم في يوسف في موضع رفع بالابتداء ومن قبل خبره ويجوز أن يكون في موضع نصب عطفاً على أن فيكون المعنى ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً وتفريطكم في يوسف ويحكم عطف على يأذن ويجوز أن يكون بمعنى إلا أن أي لن أبرح الأرض إلا أن يحكم الله لي.
المعنى: ثم أخبر سبحانه عن إخوة يوسف إنهم { قالوا } ليوسف: { إن يسرق } ابن يامين: { فقد سرق أخ له } من أمه: { من قبل } فليست سرقته بأمر بديع فإنه اقتدى بأخيه يوسف واختلف فيما وصفوه به من السرقة على أقوال. فقيل: ان عمة يوسف كانت تحضنه بعد وفاة أمه وتحبه حباً شديداً فلما ترعرع أراد يعقوب أن يسترده منها وكانت أكبر ولد إسحاق وكانت عندها منطقة إسحاق وكانوا يتوارثونها بالكسر فاحتالت وجاءت بالمنطقة وشدتها على وسط يوسف وادّعت أنه سرقها وكان من سنتهم استرقاق السارق فحبسته بذلك السبب عندها عن ابن عباس والضحاك والجبائي.
وقد روي ذلك عن أئمتنا عليهم السلام. وقيل: إنه سرق صنماً لجده من قبل أمه فكسره وألقاه على الطريق عن سعيد بن جبير وقتادة وابن زيد. وقيل: إنه سرق دجاجة كانت في بيت يعقوب أو بيضة فأعطاها سائلاً فعيَّروه بها عن سفيان بن عيينة ومجاهد: { فأسرها يوسف في نفسه } أي فأخفى يوسف تلك الكلمة التي قالوها { ولم يبدها لهم } أي لم يظهرها { قال أنتم شرُّ مكاناً } في السرق لأنكم سرقتم أخاكم من أبيكم { والله أعلم بما تصفون } أي والله أعلم أسرق أخ له أم لا عن الزجاج ويكون المعنى أنتم أسوأ حالاً من يوسف فإنه لم يكن له صنيع في المنطقة وكان يتصدق بإذن أبيه ولم تكونوا براء مما عاملتموه به. وقيل: معناه أنتم شر صنيعاً بما أقدمتم عليه من ظلم أخيكم وعقوق أبيكم فأنتم شرٌّ مكاناً عند الله منه أي أسرَّ هذه المقالة في نفسه ثم جهر بقولـه { والله أعلم بما تصفون } قال الحسن لم يكونوا أنبياء في ذلك الوقت وإنما أعطوا النبوة بعد ذلك والصحيح عندنا إنهم لم يكونوا أنبياء لأن النبي عندنا لا يجوز أن يقع منه فعل القبيح أصلاً وقال البلخي إنهم كذبوا في هذا القول ولم يصح إنهم كانوا أنبياء وجوَّز أن يكون الأسباط غيرهم أو يكونوا من أولادهم:
{ قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخاً كبيراً فخذ أحدنا مكانه } أي بدلاً عنه إنما قالوا هذا لما علموا أنه استحقه فسألوه أن يأخذ عنه بدلاً شفقة على والدهم ورققوا في القول على وجه الاسترحام ومعناه كبيراً في السن. وقيل: كبيراً في القدر لا يحبس ابن مثله: { إنا نراك من المحسنين } إلى الناس. وقيل: من المحسنين إلينا في الكيل وردِّ البضاعة وفي الضيافة ونحن نأمل هذا منك لإحسانك إلينا. وقيل: إن فعلت هذا فقد أحسنت إلينا فأجابهم يوسف بأن { قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده } ولم يقل من سرق تحرزاً من الكذب { إنا إذاً لظالمون } أي لو فعلنا ذلك لكنا ظالمين وفي هذا دلالة على أن أخذ البريء بالمجرم ظلم ومن فعله كان ظالماً والله يتعالى ويجل عن ذلك علواً كبيراً.
{ فلما استيأسوا منه } أي فلما يئس إخوة يوسف من يوسف أن يجيبهم إلى ما سألوه من تخلية سبيل ابن يامين معهم: { خلصوا نجيا } أي انفردوا عن الناس من غير أن يكون معهم من ليس منهم يتناجون فيما يعملون في ذهابهم إلى أبيهم من غير أخيهم ويتدبرون في أنهم يرجعون أم يقيمون وتلخيصه اعتزلوا عن الناس متناجين وهذا من ألفاظ القرآن التي هي في الغاية القصوى من الفصاحة والإيجاز في اللفظ مع كثرة المعنى.
{ قال كبيرهم } وهو روبين وكان أسنهم وهو ابن خالة يوسف وهو الذي نهى إخوته عن قتله عن قتادة والسدي والضحاك وكعب. وقيل: شمعون وهو كبيرهم في العقل والعلم لا في السن وكان رئيسهم عن مجاهد. وقيل: يهوذا وكان أعقلهم عن وهب الكلبي. وقيل: لاوي عن محمد بن إسحاق وعن علي بن إبراهيم بن هاشم { ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله } أراد به الوثيقة التي طلبها منهم يعقوب حين قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً من الله لتأتنني به فذكرهم ذلك { ومن قبل ما فرطتم في يوسف } أي قصرتم في أمره وكنتم قد عاهدتم أباكم أن تردوه إليه سالماً فنقضتم العهد.
{ فلن أبرح الأرض } أي لا أزال بهذه الأرض ولا أزول عنها وهي أرض مصر { حتى يأذن لي أبي } في البراح والرجوع إليه { أو يحكم الله لي } بالخروج وترك أخي ها هنا. وقيل: بالموت. وقيل: بما يكون عذراً لنا عند أبينا عن أبي مسلم. وقيل: بالسيف حتى أحارب من حبس أخي عن الجبائي { وهو خير الحاكمين } لا يحكم إلا بالحق. قالوا: إنه قال لهم أنا أكون ها هنا واحملوا أنتم الطعام إليهم فأخبروهم بالواقعة.