القراءة: في الشواذ قراءة الجحدري والثقفي وأبي الجحجاح واجنبني بقطع الهمزة وقرأ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) وأبو جعفر الباقر (ع) وجعفر بن محمد (ع) ومجاهد تهوى إليهم بفتح الواو وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وهبيرة عن حفص وتقبل دعائي ربنا بإثبات الياء في الوصل وفي رواية البزي عن ابن كثير أنه يصل ويقف بياء وقال قبيل أنه يشم الياء في الوصل ولا يثبتها ويقف عليها بالألف والباقون دعاء بغير ياء وقرأ الحسن بن علي (ع) وأبو جعفر محمد بن علي (ع) والزهري وإبراهيم النخعي ولولدَيَّ وقرأ يحيى بن يعمر ولوُلدي وقرأ سعيد بن جبير ولوالدي.
الحجة: يقال جنبت الشيء أجنبه جنوباً ومن العرب من يقول أجنبته أجنبه أي تجنبته عن الشيء وكأن معنى قوله اجنبني وبني أن نعبد الأصنام اصرفني وإياهم عن عبادة الأصنام ومعنى اجنبني اجعلني كالجنيب عن ذلك وأما قوله: { تهوى إليهم } بفتح الواو فهو من هويت الشيء أهواه إذا أحببته وإنما جاز تعديته بإلى لأن معنى هويت الشيء ملت إليه فكأنه قال تميل إليهم فهو محمول على المعنى ومثله قوله سبحانه: { { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } [البقرة: 187] فعدّى الرفث بإلى وأنت لا تقول رفثت إلى فلانة وإنما تقول رفثت بها أو معها ولكنه لما كان معنى الرفث هنا معنى الإفضاء عدّاه بإلى فكأنه قال أحل لكم الإفضاء إلى نسائكم.
قال ابن جني المعنى في قراءة الجماعة تهوي إليهم تميل إليهم أي تحبهم فهذا في المعنى كقولهم وهو ينحط في هواك أي يخلد إليه ويقيم عليه وذلك أن الإنسان إذ أحب الشيء أكثر من ذكره وأقام عليه وإذا كرهه خف إلى سواه وقولهم هويت فلاناً من لفظ هوى إلى الشيء يهوى إلا أنهم خالفوا بين المثالين لاختلاف ظاهر الأمرين وإن كانا على معنى واحد متلاقيين, وأما من وصل دعائي بياء فهو القياس من شم الياء في الوصل ولا يثبتها فلدلالة الكسرة على الياء. قال أبو علي حذف الياء في الوقف أقيس من حذفها في الوصل لأن الوقف موضع تغيير يغير فيه الحرف الموقوف عليه كثيراً قال الأعشى:
فَهَلْ يَمْنَعني ارْتِيادي البِلا د مِـنْ حَـذَرِ الْمَوْتِ أنْ يِأتِيَنْ
وقال:
وَمِنْ شانىءٍ كاسِفٍ وَجْهُهُ إذا مَا انْتَسَبْتُ لَهُ أنْكَرَنْ
ومن قرأ لولَدَيَّ فإنه يعني إسماعيل وإسحاق ومن قرأ لوُلدي فإن الولد قد يكون واحداً وجمعاً تقول العرب ولدك من دمّي عقبيك ومعناه ولدك من ولدته فسال دمك على عقبيك عند ولادته لا من اتخذته ولداً وإذا كان جمعاً فيجوز أن يكون جمع ولَدَ فهو كأسد وأسد ويجوز أن يكون جمع وُلد أيضاً فيكون مثل الفلك في أنه جمع الفلك.
اللغة: الوادي سفح الجبل العظيم ومنها قيل للأنهار العظام أودية لأن حافاتها كالجبال لها ومنه الدية لأنه مال عظيم يحتمل في أمر عظيم.
المعنى: { وإذ قال إبراهيم } معناه واذكر يا محمد إذ قال إبراهيم: { رب اجعل هذا البلد آمناً } يعني مكة وما حولها من الحرم وقيل إن إبراهيم (ع) لما فرغ من بناء الكعبة دعا بهذا الدعاء وقد تقدَّم تفسيره في سورة البقرة وإنما قال هناك بلداً آمناً وقال هنا هذا البلد آمناً معرفاً لأن النكرة إذا تكررت وأعيدت صارت معرفة ومثله في التنزيل فيها مصباح المصباح في زجاجة كأنها كوكب فاستجاب الله دعاء إبراهيم (ع) حتى كان الإنسان يرى قاتل أبيه فيها فلا يتعرض له ويدنو الوحش فيها من الناس فيأمن منهم.
{ واجنبني وبني أن نعبد الأصنام } أي والطف لي ولبنيَّ لطفاً نتجنب به عن عبادة الأصنام ودعاء الأنبياء لا يكون إلا مستجاباً فعلى هذا يكون سؤاله ذلك مخصوصاً بمن علم الله من حاله أن يكون مؤمناً لا يعبد إلا الله ويكون الله سبحانه قد أذن له في الدعاء لهم واستجاب دعاءه فيهم { رب إنهن أضللن كثيراً من الناس } معناه ضلَّ بسببهن وعبادتهن كثير من الناس كما يقال فتنتني فلانة يعني افتتنتُ بحبها لا لأنها عملت شيئاً وكما في قول الشاعر:
هَبُونِي امرَأً مِنْكُمْ أًضَلَّ بَعيرهُ لَـه ذِمَّـةٌ إنَّ الذِمـامَ كَبــيرُ
وإنما أراد ضلَّ بعيره لأن أحداً لا يضلُّ بعيره قاصداً إلى إضلاله { فمن تبعني فإنه مني } يريد فمن تبعني من ذريتي الذين أسكنتهم هذا البلد على ديني في عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام فإنه من جملتي وحاله كحالي { ومن عصاني فإنك غفور رحيم } أي ساتر على العباد معاصيهم رحيم بهم في جميع أحوالهم منعم عليهم.
ثم حكى سبحانه تمام دعاء إبراهيم (ع) وأنه قال: { ربنا إني أسكنت من ذريتي } أي أسكنت بعض أولادي ولا خلاف أنه يريد إسماعيل (ع) مع أمه هاجر وهو أكبر ولده وروي عن الباقر (ع) أنه قال نحن بقية تلك العترة وقال كانت دعوة إبراهيم (ع) لنا خاصة { بواد غير ذي زرع } يريد وادي مكة وهو الأبطح وإنما قال غير ذي زرع لأنه لم يكن بها يومئذ ماء ولا زرع ولا ضرع ولم يذكر مفعول أسكنت لأن مِنْ يفيد بعض القوم كما يقال قتلنا من بني فلان وأكلنا من الطعام وكما قال سبحانه { { أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله } الأعراف: 50] وتقديره أسكنت من ذريتي أناساً أو ولداً عن البلخي.
{ عند بيتك المحرم } إنما أضاف البيت إليه سبحانه لأنه مالكه لا يملكه أحد سواه وما عداه من البيوت قد ملكه غيره من العباد ويسأل فيقال كيف سماه بيتاً ولم يبنه إبراهيم (ع) بعد والجواب من وجهين أحدهما: أنه لما كان من المعلوم أنه يبنيه سماه بيتاً والمراد عند بيتك الذي مضى في سابق علمك كونه والثاني: أن البيت قد كان قبل ذلك وإنما خربه طسم وجديس وقيل إنه رفعه الله إلى السماء أيام الطوفان وإنما سمّاه المحرَّم لأنه لا يستطيع أحد الوصول إليه إلا بالإحرام وقيل لأنه حرم فيه ما أحل في غيره من البيوت من الجماع والملابسة بشيء من الأقذار والدماء وقيل معناه العظيم الحرمة.
{ ربنا ليقيموا الصلاة } أي أسكنتهم هذا الوادي ليداوموا على الصلاة ويقيموا بشرائطها واللام تتعلق بقوله: { أسكنت } وفصل بينه وبين ما تعلق بقوله ربنا لأن الفصل بالنداء مستحب في هذا وإذا جاء نحو قوله:
عَلى حِينَ أَلْهَى النَّاسَ جُلُّ أُمُورِهِمْ فَنَدْلاً زُرَيْقُ الْمـــالَ نـَـدْلَ الثَّعـالِبِ
أي أندل المال يا زريق ففصل بالنداء بين المصدر وما تعلق به كان هذا أولى { فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم } هذا سؤال من إبراهيم (ع) أن يجعل الله قلوب الخلق تحنّ إلى ذلك الموضع ليكون في ذلك أنس لذريته بمن يرد عليهم من الوفود وليدر أرزاقهم على مرور الأوقات, ولولا لطفه سبحانه بإمالة قلوب الناس إليه إما للدين كالحج والعمرة وإما للتجارة لما صحَّ أن يعيش ساكنوه. قال سعيد بن جبير: لو قال أفئدة الناس لحجت اليهود والنصارى والمجوس ولكنه قال من الناس فهم المسلمون.
وروى مجاهد أنه قال: إن إبراهيم (ع) لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم وروى الفضل بن يسار وغيره عن الباقر (ع) أنه قال: إنما أمر الناس أن يطوفوا بهذه الأحجار ثم ينفروا إلينا فيُعلمونا ولايتهم ويعرضوا علينا نصرهم ثم قرأ هذه الآية وقيل إن معنى تهوي إليهم ينزع إليهم ويميل عن ابن عباس وقتادة وقيل معناه وينزل ويهبط إليهم لأن مكة في غور عن أبي مسلم.
{ وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون } أي لكي يشكروا لك ويعبدوك { ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن } هذا اعتراف من إبراهيم (ع) لله سبحانه بأنه يعلم ما يبطن الخلق وما يظهرونه وأنه لا يخفى عليه شيء مما في الأرض والسماء وقيل إن قوله: { وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء } إنما هو إخبار منه سبحانه بذلك وابتداء كلام من جهته لا على سبيل الحكاية عن إبراهيم (ع) بل هو اعتراض عن الجبائي قال ثم عاد إلى حكاية كلام إبراهيم (ع) فقال: { الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق } وهذا اعتراف منه بنعم الله سبحانه وحمد له على إحسانه بأن وهب له على الكبر كبر سنه ولدين قال ابن عباس ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين وولد له إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة.
وقال سعيد بن جبير لم يولد لإبراهيم (ع) إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة: { إن ربي لسميع الدعاء } أي قابله ومجيبه عن ابن عباس ويؤيده قوله: سمع الله لمن حمده { رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي } تقديره واجعل من ذريتي مقيم الصلاة فحذف الفعل لأن ما قبله يدل عليه وهذا سؤال من إبراهيم (ع) من الله تعالى بأن يلطف له اللطف الذي عنده يقيم الصلاة ويتمسك بالدين وأن يفعل مثل ذلك بجماعة من ذريته وهم الذين أسلموا منهم فسأل لهم مثل ما سأل لنفسه { ربنا وتقبل دعاء } أي وأجِبْ دعائي فإن قبول الدعاء إنما هو الإجابة وقبول الطاعة الإثابة.
{ ربنا اغفر لي ولوالدي } واستدل أصحابنا بهذا على ما ذهبوا إليه من أن أبوي إبراهيم (ع) لم يكونا كافرين لأنه إنما يسأل المغفرة لهما يوم القيامة فلو كانا كافرين لما سأل ذلك لأنه قال فلما تبيَّن له أنه عدُّو لله تبرأ منه فصحَّ أن أباه الذي كان كافراً إنما هو جده لأمه أو عمه على الخلاف فيه ومن قال إنما دعا لأبيه لأنه كان وعده أن يسلم فلما مات على الكفر تبرأ منه على ما روى الحسن فقوله: { فاسد } لأن إبراهيم (ع) إنما دعا بهذا الدعاء بعد الكبر وبعد أن وهب له إسماعيل وإسحاق وقد تبيَّن له في هذا الوقت عداوة أبيه الكافر لله فلا يجوز أن يقصده بدعائه { وللمؤمنين يوم يقوم الحساب } أي واغفر للمؤمنين أيضاً يوم يقوم الخلق للحساب وقيل معناه يوم يظهر وقت الحساب كما يقال قامت السوق.
النظم: اتصلت الآيات بما قبلها لأن النهي عن عبادة الأصنام والأمر بعبادة الله سبحانه قد تقدَّم فبيَّن الله سبحانه عقيب ذلك ما مكان عليه إبراهيم (ع) من التشدد في إنكار عبادة الأصنام والدعاء بما دعا به وقيل إنه معطوف على ما تقدم من قوله: { { ولقد أرسلنا موسى بآياتنا } [إبراهيم: 5] وقيل إنه لما قال: { { وآتاكم من كل ما سألتموه } [إبراهيم: 34] بيَّن عقيبه ما دعا به إبراهيم (ع) وسأله إياه وإجابته لدعائه وسؤاله.