التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ
٢٦
وَٱلْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ
٢٧
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ
٢٨
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ
٢٩
فَسَجَدَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ
٣٠
إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ ٱلسَّاجِدِينَ
٣١
قَالَ يٰإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ ٱلسَّاجِدِينَ
٣٢
قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ
٣٣
قَالَ فَٱخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ
٣٤
وَإِنَّ عَلَيْكَ ٱللَّعْنَةَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلدِّينِ
٣٥
-الحجر

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: الصلصال الطين اليابس أخذ من الصلصلة وهي القعقعة ويقال لصوت الحديد ولصوت الرعد صلصلة وهي صوت شديد متردد في الهواء وصلَّ يصل إذا صوَّت قال:

رَجَعْتُ إلى صَوْتٍ كَجـــَرَّةِ حَنْتمٍ إذا قُرِعَتْ صِفْراً مِنَ الماءِ صَلَّتِ

ويقال الصلصال المنتن أخذ من صل اللحم وأصل إذا أنتن, والحمأ جمع حمأة وهو الطين المتغير إلى السواد يقال حمئت البئر وأحمأتها أنا والمسنون المصبوب من سننت الماء على وجهه أي صببته ويقال سننت بالسين غير معجمة أرسلت الماء وشننت بالشين معجمة صببت, وقيل إنه المتغير من قولهم سننت الحديد على المسن إذا غيرتها بالتحديد وأصلها الاستمرار في جهة من قولهم هو على سنن واحد والسنة الطريقة وسنة الوجه صورته قال ذو الرمة:

تُرِيكَ سُنَّةَ وَجْهٍ غَيْرَ مُقْرِفَةٍ مَلْساءَ لَيْسَ بِها خالٌ وَلا نَدَبُ

قال سيبويه: جمع الجان جنان فهو مثل حائط وحيطان وراع ورعيان. والسموم الريح الحارة أخذ من دخولها بلطفها في مسام البدن ومنه السم القاتل يقال سم يومنا يسم إذا هبت فيه ريح السموم.
الإعراب: من جعل الجان جمعاً قال ولم يقل خلقناها كما قال مما في بطونه ومما في بطونها وقوله ما لك أن تكون مع الساجدين ما مبتدأ ولك خبره والتقدير أيّ شيء ثابت لك وألا تكون تقديره في أن لا تكون فحذف في وهي متعلقة بالخبر أيضاً فلما حذفت في انتصب موضع أن لا تكون على قول سيبويه وبقي على الجر على قول الخليل وأبو الحسن حمل أن على الزيادة ولا تكون في موضع الحال قال وتقديره ما لك خارجاً عن الساجدين.
المعنى: لما ذكر سبحانه الإحياء والإماتة والنشأة الثانية عقَّبه ببيان النشأة الأولى فقال { ولقد خلقنا الإنسان } يعني آدم { من صلصال } أي من طين يابس يسمع له عند النقر صلصلة أي صوت عن ابن عباس والحسن وقتادة وأكثر المفسرين وقيل طين صلب يخالطه الكثيب عن الضحاك وقيل منتن عن مجاهد واختاره الكسائي { من حمأ } أي من طين متغير { مسنون } أي مصبوب كأنه أفرغ حتى صار صورة كما يصب الذهب والفضة وقيل إنه الرطب عن ابن عباس وقيل مسنون مصور عن سيبويه قال أخذ من سنة الوجه.
{ والجان } وهو إبليس عن الحسن وقتادة وقيل هو أبو الجن كما أن آدم أبو البشر عن ابن عباس وقيل هم الجن نسل إبليس وهو منصوب بفعل مضمر معناه وخلقنا الجان { خلقناه من قبل } أي من قبل خلق آدم { من نار السموم } أي من نار لها ريح حارة تقتل وقيل هي نار لا دخان لها والصواعق تكون منها. وروى أبو روق عن الضحاك عن ابن عباس قال كان إبليس من حي من إحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم من بين الملائكة وخلق الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار وقيل السموم النار الملتهبة عن أبي مسلم وفي هذا إشارة إلى أن الإنسان لا يفضل بأصله وإنما يفضل بدينه وعلمه وصالح عمله وأصل آدم (ع) كان من تراب وذلك قوله
{ { خلقه من تراب } [آل عمران: 59] ثم جعل التراب طيناً وذلك قوله { { وخلقته من طين } [الأعراف: 12] ثم ترك ذلك الطين حتى تغير واسترخى وذلك قوله من حمأ مسنون ثم ترك حتى جف وذلك قوله من صلصال فهذه الأقوال لا تناقض فيها إذ هي إخبار عن حالاته المختلفة.
{ وإذ قال ربك للملائكة } تقديره واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة { إني خالق } أي سأخلق { بشراً } أي آدم وسمي بشراً لأنه ظاهر الجلد لا يواريه شعر ولا صوف { من صلصال من حمأ مسنون } مرَّ معناه { فإذا سويته } بإتمام خلقته وإكمال خلقه وقيل معناه عدلت صورته { ونفخت فيه من روحي } والنفخ إجراء الريح في الشيء باعتماد فلما أجرى الله سبحانه الروح في آدم على هذه الصفة كان قد نفخ الروح فيه وإنما أضاف روح آدم إلى نفسه تكرمة له وتشريفاً وهي إضافة الملك { فقعوا له ساجدين } أي اسجدوا له قال الكلبي: أي فخرّوا له ساجدين.
{ فسجد الملائكة كلهم أجمعون } هذا توكيد بعد توكيد عند سيبويه. وقال المبرد: ويدل قولـه أجمعون على اجتماعهم في السجود أي فسجدوا كلهم في حالة واحدة قال الزجاج: وقول سيبويه أجود لأن أجمعون معرفة فلا يكون حالاً { إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين } أي امتنع أن يكون معهم. فلم يسجد معهم وقد سبق القول في أن إبليس هل كان من الملائكة أو لم يكن واختلاف العلماء فيه وما لكل واحد من الفريقين من الحجج وذكرنا ما يتعلق بذلك من الكلام في سورة البقرة فلا معنى للإعادة وإن يكون في محل نصب أي أبى الكون مع الساجدين.
{ قال يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين } قال الزجاج: معناه أي شيء يقع لك في أن لا تكون مع الساجدين فموضع أن نصب بإسقاط في وإفضاء الناصب إلى أن وهذا خطاب من الله سبحانه لإبليس ومعناه لم لا تكون مع الساجدين فتسجد كما سجدوا وإنما قال سبحانه بنفسه على جهة الإهانة له كما يقول لأهل النار
{ { اخسأوا فيها ولا تكلمون } [المؤمنون: 108] وقال الجبائي إنما قال سبحانه ذلك على لسان بعض رسله لأنه لا يصح أن يكلمه الله بلا واسطة في زمان التكليف.
{ قال } أي قال إبليس مجيباً لهذا الكلام { لم أكن لأسجد } أي ما كنت لأسجد وقيل معناه ما كان ينبغي أن أسجد { لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون } لأني أشرف أصلاً منه ولم يعلم أن التفاضل بالدين والأعمال لا بالأصل { قال فاخرج منها } أي من الجنة { فإنك رجيم } أي مشؤوم مطرود ملعون وقيل معناه اخرج من السماء عن أبي مسلم وقيل من الأرض فالحقه بالبحار لا يدخل الأرض إلا كالسارق, وقيل رجيم مرجوم أي إن رجعت إلى السماء رجمت بمثل الشهب التي يرجم به الشياطين عن الجبائي { وإن عليك اللعنة } أي وإن عليك مع ذلك اللعنة أي الإبعاد من رحمة الله ولذلك لا يجوز أن يلعن بهيمة { إلى يوم الدين } أي يوم الجزاء وهو يوم القيامة. والمراد أن الله سبحانه قد لعنك وأهل السماء والأرض يلعنونك لعنة لازمة لك إلى يوم القيامة ثم يحصل بعد ذلك على الجزاء بعذاب النار وفيه بيان أنه لا يؤمن قط وقال بعض المحققين إنما قال سبحانه هنا وإن عليك اللعنة بالألف واللام وقال في سورة ص لعنتي بالإضافة لأن هناك يقول لما خلقت بيدي مضافاً فقال وإن عليك لعنتي على المطابقة وقال هنا ما لك ألا تكون مع الساجدين وساق الآية على اللام في قوله ولقد خلقنا الإنسان وقوله والجان فأتى باللام أيضاً في قوله وإن عليك اللعنة.